الخيارات الأصعب التي تنتظر أردوغان

TT

أمام كل ما قيل ويقال عن أن الاعتداء على أسطول الحرية يمثل ميلادا جديدا في العلاقات الدولية.. وأن الإسرائيليين أثبتوا عجزهم أكثر من مرة في قراءة الموقف التركي وسياقه الداخلي والإقليمي.. وأنهم أسهموا إسهاما مباشرا في دفع العلاقات التركية - الإسرائيلية نحو المزيد من التدهور بحيث لن تعود أبدا إلى ما كانت عليه.. وأن الأزمة بين تل أبيب وأنقرة عمقت الشكوك المتراكمة بخصوص الصلات الإسرائيلية المحتملة بحزب العمال الكردستاني وتحريكه لتجديد التصعيد داخل تركيا انطلاقا من التعاون بينهما خصوصا في شمال العراق.. وأن حكومة نتنياهو لن تتراجع بمثل هذه السهولة.

وكما قرأنا في تصريحات رئيس الأركان الإسرائيلي أشكينازي الأخيرة حول العلاقات المميزة مع قيادة القوات المسلحة التركية عن اللعب بورقة وجود فوارق في وجهات النظر بين القوى السياسية والعسكرية التركية حيال الدولة العبرية.. وأن وزير الخارجية التركي داود أوغلو جدد تمسك بلاده بقطع كامل للعلاقات مع إسرائيل، مؤكدا أن أنقرة كانت تتوقع موقفا أفضل من واشنطن، غامزا من قناة الولايات المتحدة على أنها هي التي عملت على التخفيف من الصيغة الأولى لبيان مجلس الأمن الدولي حول العدوان الإسرائيلي على أسطول الحرية. وأنه، وكما فهمنا من الإعلام العربي والتركي والإسرائيلي والأميركي، وكما أجمع كبار المتابعين الإسرائيليين على أن زيارة بنيامين نتنياهو إلى واشنطن نجحت في محو آثار الخلاف الذي ساد قبل بضعة أشهر، من دون أن تتغيّر السياسة الإسرائيلية. وأن إدارة أوباما هي التي تحمي تل أبيب وتغطي على سلبيات سياساتها ومواقفها وتصعيدها الدائم.

أمام كل ذلك، فإن رجب طيب أردوغان، ورغم مصداقية سياسته الإقليمية وازدياد تأثيرها على القوى العربية والإسلامية، يتعرض في هذه الآونة إلى حملة من الضغوطات المكثفة من قبل الكثير من العواصم الغربية من أجل تخفيف حدة التوتر في العلاقات مع تل أبيب. لا بل هو أمام حقيقة التحرك ببراغماتية جديدة وسياسة عقلانية تفترض دراسة حسابات الربح والخسارة وقبول تحمّل تقديم المزيد من التنازلات، حتى ولو كانت مكلفة في بعض الأحيان.

معادلة أن تركيا تتحول شرقا متخلية عن الغرب وأوروبا والمشروع الأميركي، يقابلها في هذه الآونة تصعيد أميركي - أوروبي - إسرائيلي يجب توقع المزيد منه في الأيام المقبلة. أوباما قرر على ما يبدو إعطاء الأولوية لمسألة الانتخابات الفرعية التشريعية الجديدة، وهو يعرف هنا قدرات اللوبي الإسرائيلي في تحديد نتائجها. هذا إلى جانب حاجته إلى إسرائيل بعدما ابتعدت عنه تركيا في موضوع الملف النووي الإيراني.

مجموعة التوترات المتلاحقة التي فرضت نفسها على العلاقات الأميركية - الإسرائيلية تزول تدريجيا، وحجم التنسيق تتوسع رقعته يوما بعد آخر، ابتداء من الخلاف حول أولوية الملفات خاصة: الملف الإيراني، والملف الفلسطيني، وملف التوسع الاستيطاني الإسرائيلي في القدس والضفة الغربية. وواشنطن ستعطي الأولوية دائما لإنقاذ إسرائيل من أية محاولات تركية لعزلها دوليا أو إضعاف قدراتها العسكرية في شن الحروب العسكرية الناجحة.

لا بل إنه لم تكد تمر ساعات على لقاء أوباما - نتنياهو حتى جاء تسريب خبر قيام إدارة أوباما بتقديم وثيقة إلى إسرائيل تلتزم فيها الولايات المتحدة ببيعها مواد نووية سجلت على أنها لاستخدامات إنتاج الطاقة الكهربائية. ثم تلت ذلك مسارعة اللوبي اليهودي الأميركي ضدّ تركيا لمطالبة حكومة أردوغان بتحديد موقفها إن كانت مع أميركا والغرب أم مع قطاع غزة لتتضح لنا الصورة أكثر فأكثر بأننا نراهن على جرة عسل نبيعها فتتحول بين ليلة وضحاها إلى قطيع من الأغنام وزوجة ساحرة وأطفال يسرحون ويمرحون في الدار.

كنا نراهن على أن أردوغان وأوباما سيتعاونان لقلب الطاولة فوق رأس نتنياهو. لكن يبدو أن لقاء واشنطن الأخير بين أوباما ونتنياهو بات يفرض على رئيس الوزراء التركي قلب الطاولة فوق رؤوس الأميركيين قبل ذلك.. فهل هو جاهز لمغامرة من هذا النوع؟

متحمسون من الأتراك يقولون إن هناك بدائل أخرى أمام أردوغان غير خيار قبول تقديم التنازلات أو انتظار الصحوة الأميركية لحماية حقوق المدنيين الأتراك وسمعة تركيا الدولية. وهم باتوا يطالبون رئيس وزرائهم بالتفكير جديا في مسائل قطع العلاقات مع أميركا أولا وبعدها مع إسرائيل، ما دام أن بلاده تتعرض يوميا لضربات سياسية وأمنية انتقامية، كما يقولون، وما دام أن حسابات واشنطن وتل أبيب باتت تبنى على إسقاط حكومة العدالة والتنمية التي تتحرك على حسابها في أكثر من مكان. وأتراك آخرون يصرون على أن يهرب أردوغان بقفزة بعيدة إلى الأمام حتى ولو استهدفت الشراكة التركية - الأميركية وهددتها في العمق. فهل يقدم أردوغان على خطوة من هذا النوع؟ لم لا وهو الذي عودنا دائما على المفاجآت كما يقولون، وحتى لا تتهمه قواعده الشعبية الإسلامية بأنه حول قضية «مافي مرمرة» (مرمرة الزرقاء) إلى «ما في مرمرة» بين ليلة وضحاها.