أوكتافيا نصر وفارس سُعيد.. الاعتدال المرفوض

TT

«نعوم تشومسكي يستطيع

أن ينشر في إسرائيل

عن إسرائيل ما لا يستطيع نشره عنها في الولايات المتحدة»

(غور فيدال)

شخصيا، لم يسبق لي أن التقيت الإعلامية أوكتافيا نصر التي صرفتها شبكة تلفزيون «سي.إن.إن» من الخدمة أخيرا، كما لم يسبق لي أن قابلت الدكتور فارس سُعيد النائب السابق في البرلمان اللبناني والأمين العام الحالي لتجمع 14 آذار. ثم، مع احترامي لكل منهما، فلا مصلحة خاصة لي مع أي منهما.. لا من قريب ولا من بعيد.

مع هذا، أرى نفسي اليوم مندفعا للكتابة عنهما، ليس كشخصين لكل منهما موقف سياسي معين قد يختلف معه الآخرون أو يقبلونه، بل لأنهما وجدا نفسيهما على بعد آلاف الأميال أحدهما عن الآخر.. «ضحيتين» لمناخ إقصائي وإلغائي يرفض الجدل المنطقي ويجرم الاعتدال.. وسط الخطب الطوال عن حرية الرأي وحق الاختلاف.

«جريمة» أوكتافيا نصر، اللبنانية المسيحية، التي تلقت تعليمها الجامعي في جامعة أميركية مسيحية داخل لبنان، قبل أن تحملها كفاءتها الصحافية إلى الولايات المتحدة - التي يصفها نشيدها الوطني بـ«أرض الأحرار»The Land of the free - أنها كتبت في «تويتر» بضع كلمات طيبة بحق رجل دين مسلم توفاه الله. وبالتالي، فلا هي كانت تحزم حقائبها للانضمام إلى جماعته، ولا هو - على الأقل خلال السنوات الأخيرة من حياته - كان ناشطا في حرب دينية أو عنصرية مفتوحة، بل كان صاحب استقلال اجتهادي فقهي عن الجماعات الممسكة اليوم بالقرار السياسي في إيران، مثله مثل آية الله علي السيستاني في النجف الأشرف وآية الله الراحل حسين منتظري في قلب قم.

أوكتافيا نصر، كانت تحيي شخصا راحلا.. إذا كانت «أصوليته الشيعية» موضع إدانة في الولايات المتحدة لما كانت واشنطن قد فتحت لهذه «الأصولية» أبواب العراق بعد حرب غاشمة خطط لها ونفذها «لوبي» له برنامج عمل غير أميركي.

وفي نهاية المطاف، فالمسألة ليست ما إذا كانت أوكتافيا نصر هددت الأمن الوطني الأميركي.. كما فعل الجنرال ستانلي ماكريستال بانتقاده استراتيجية الحرب الأميركية بأفغانستان، بقدر ما هي وجود جهة داخل الولايات المتحدة مصرة على أخذ الرأي العام الأميركي رهينة، بينما هي تتآمر على العرب في كل مكان، وتبيع وتشتري في مصائرهم وكياناتهم الهشة في «سوق نخاسة» مظلم. وبعدما صور هذا «اللوبي» فتاة جميلة في مقتبل العمر اسمها ريما فقيه على أنها حالة اختراق لحزب الله بمجرد فوزها بلقب ملكة جمال الولايات المتحدة، صارت هيلين توماس (89 سنة) عميدة مراسلي البيت الأبيض - وهي أيضا مسيحية لبنانية الأصل - تجسيدا للعنصرية والعداء للسامية لإطلاقها موقفا لفظيا حواريا هاجمت فيه الاستيطان الإسرائيلي.

وبالعكس تماما، فإن أحدا في واشنطن من قمة هرم السلطة إلى أصغر صحافي.. لا يجرؤ على مواجهة بنيامين نتنياهو بأن مستوطناته المتوسعة والمتمددة أبدا تهجر وتشرد الألوف سنويا، وتشكل أقوى دعم تجنيدي وعقائدي لكل الحركات الأصولية المتشددة المناوئة للولايات المتحدة في العالم الإسلامي.

وفي لبنان اليوم، حيث يبدو أن الأمر قد حسم لمصلحة أولئك الذين أكسبتهم صدقيتهم السياسة الإسرائيلية المدعومة أميركيا.. نجد أمامنا حالة مشابهة، ولكن في الاتجاه المعاكس.

فـ«جريمة» فارس سعيد، الطبيب والسياسي العاقل المعتدل، هي بالضبط عقلانيته واعتداله. والسبب أن حكام لبنان الفعليين لا يريدون صوتا مسيحيا ليبراليا تقدميا يعتز بهويته العربية بلا عقد أو شروط، ويؤمن بحقوق الإنسان (بما فيها الإنسان الفلسطيني)، ويحاسب نفسه بقدر ما يحاسب الآخرين، ويواجههم بالمنطق والحجة والحوار المخلص.. مثل صوت سعيد.

لا.. إنهم يرتاحون إما لصوت رجعي متخلف ومتحجر لا يزال يتكلم بلهجة ذمية خائفة ومريضة، أو لصوت انتهازي مشبوه.. ينافق ويزايد ويعقد الصفقات المريبة. وحقا، تراهم سعداء بالتحالف مع مجانين عظمة دأبهم المتاجرة بالخوف المسيحي.. مع أنهم يعرفونهم ويعرفون خلفياتهم جيدا.

فارس سعيد، ولفيف خير من أمثاله، مرفوضون اليوم عند «الحالة الجديدة» الممسكة بالقرار اللبناني لأنهم يجسدون المسيحي اللبناني العربي، التقدمي والديمقراطي، المطلوب إلغاؤه. وللأسف، كثيرون ممن لا مصلحة لهم في ذلك يجدون أنفسهم مجبرين على السير في مخطط إلغائه.

...دنيا!