شربنا من البحر وما اتعظنا

TT

تصوروا أن بريطانيا التي تجري من تحتها الأنهار الدفاقة وتزين جسدها البحيرات العذبة وتستحم بزخات المطر المدرار على مدار العام، وتلتحف قريرة العين بسحب ندية كثيفة تلهث الشمس جاهدة خلفها لعلها تجد كوة ترسل عبرها أشعتها العسجدية على شعب يتباشر بالشمس كما يتباشر أهل الجزيرة العربية بالسحب، تستصدر هذه الأيام قانونا مائيا صارما بدأوا في تنفيذه بالفعل الجمعة الماضية؛ هذا القانون الجديد يحظر استخدام المياه في سقي الحدائق المنزلية وفي غسل السيارات، والغرامة نحو 1600 دولار، كما ذكر لي بالأمس جاري في مانشستر.

تذكرت حينها الحصن الحصين للمياه في السعودية المهندس عبد الله الحصين وزير المياه والكهرباء السعودي، الذي لا يكل ولا يمل من إطلاق التحذيرات من الإسراف في استخدام المياه، متسلحا بالأرقام والإحصاءات المخيفة، حتى سبب هاجسه المائي احتكاكا وتماسا مع إدارات حكومية نازفة للمياه مثل وزارة الزراعة.. صرخاته التحذيرية لم تلق في الغالب آذانا صاغية، والناس مع الأسف الشديد في الدول الشحيحة بموارد المياه كدول الخليج والسعودية على وجه الخصوص، لا يبدو أنهم يدركون خطورة الحال، ويتعاملون مع المياه وكأنهم على ضفاف الأمازون. أنا أترحم على حال الوزير المائي عبد الله الحصين الذي حاصره «جفاف» الانتقادات بسبب إجراءاته الاحترازية للحفاظ على أعظم ثروة يملكها الإنسان، فكيف لو أصدرت وزارته قانونا يحظر غسل السيارات وسقي الحدائق المنزلية ومزارع «الترف» والاستراحات؟

الخطورة يا سادة تكمن في وجود تناسب عكسي بين عدد سكان العالم والموارد المائية، فالسكان في ازدياد يصل إلى حد القفزات، والموارد المائية في تناقص مفزع. وحتى تتضح لكم الصورة، فالإحصاءات، التي استقيتها من الوزير الحصين، تقول: «لن يعود متاحا للفرد من المياه الصالحة في عام 2050 إلا أقل من 10% مما كان متاحا له عام 1950». تقولون مصيبة؟ اقرأوا المصيبة الأكبر: هذه الكمية المائية الضئيلة التي تتضاءل مع الزمن هي أصلا لا تتناسب مطلقا مع التوزيع السكاني؛ فبينما تستأثر الأميركتان الشمالية والجنوبية بـ40% من مياه العالم القابلة للاستخدام، نجد أن سكانها فقط 15% من سكان العالم. وعليه، فلا نستبعد يوما ما أن نفاجأ بسكان العالم الجديد في الأميركتين يفرضون الماء مقابل النفط بدل الأرض مقابل السلام.

أما الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، فالإحصاءات المائية أكثر رعبا؛ فهاتان المنطقتان تحويان 1.4% من المياه في العالم ويقطنهما 6.4% من سكان العالم، هذه القطرات البسيطة تستأثر بها في الشرق الأوسط أربع دول فقط؛ هي إيران والعراق وسورية وتركيا. أما السعودية ومعها دول الخليج، فقد استفادت من مخزونها النفطي الكبير «فشربت من البحر» وغطت تكلفة تحليته الباهظة وسوقته لشعوبها بأسعار زهيدة لا يليق الاستمرار عليها، حين شربت شعوب الخليج من البحر لم يعد لعبارة «اشرب من البحر» في دول الخليج أي مضمون شتائمي.

أما إذا ضيقنا الدائرة على السعودية، فهي الأخطر مائيا بين دول الخليج بسبب عدد سكانها الكبير وترامي أطرافها. فتكلفة المياه في دول الخليج مبنية على إنتاجها فقط، أما السعودية فتتجاوز تكلفة الإنتاج إلى النقل مئات الكيلومترات ورفعه آلاف الأمتار بسبب التعقيدات في التضاريس. إذن الحقائق والإحصاءات المائية مفزعة، ولو أن مواطني دول الجزيرة العربية - خاصة السعودية - تأملوا فيها وفي مستقبل أجيالهم المائي بل حتى في حاضرهم، فلن يستطعموا لطعام ولن يهنأوا لرقاد.

[email protected]