أفظع من كسرة الخبز

TT

كان أورهان كمال واحدا من كبار شعراء تركيا، أوائل القرن العشرين. وقد حكم عليه بالسجن بتهمة التحريض ضد نظام أتاتورك. كان معجبا بـ«معلم» لا يعرفه عن قرب، هو ناظم حكمت، كبير شعراء تركيا، الذي يقضي حكما بالسجن في مكان آخر، أو بالأحرى يتنقل من سجن إلى آخر. وذات يوم يفاجئ مدير سجن برصة برهان كمال بالسؤال: «حزر من سينضم إليكم هنا؟ ناظم حكمت».

عن أيام السجن تلك، وضع أورهان كمال كتابه «في السجن مع ناظم حكمت» (بالإنجليزية عن دار الساقي). ولعل من أهم ذكرياتي الأدبية، أنني حضرت أمسية شعرية لناظم حكمت. فبعد خروجه من السجن كانت العواصم تنتشي بالإصغاء إليه يلقي شيئا من ديوانه «آفاق بشرية من بلادي». كان الشاعر العملاق الوسيم، الأحمر البشرة، يلقي قصائده بالتركية وإلى جانبه شاعر يلقي الترجمة. ولم يكن في حاجة إلى من يترجم. كنت تشعر، من اللحن والإيقاع وذراع ناظم حكمت التي ترسم الصور في الهواء، أن ما تسمعه هو أحلى الشعر. بقي ناظم حكمت في ذاكرتي، منشدا ساحرا. وكان يترجم شعره يومذاك الشاعر سعيد عقل، الذي عرف أنه من أمراء الإلقاء والخطابة. فقد كان يخدر الجماهير ويسحرها أكثر مما يثير إعجابها. ومع ذلك بدا لا شيء أمام حضور ناظم حكمت. رغم أن اللغة التركية لا أجراس فيها ولا غناء، فقد بدت يومها موسيقية كالإيطالية وحدائية كأناشيد المحاربين. ذلك الشاعر العظيم كان له رقم مسلسل في سجن برصة، كما نقرأ الآن في مذكرات أورهان كمال. عاش بين مدمني الحشيش وأولئك يملأون أوقات الفراغ بالطعن بالسكاكين. وهادئا، كان يذهب كل يوم إلى مشغل السجن؛ يحفر في خشبة أو يحيك قطعة قماش. كان يحاول أن يثبت إلى أي مدى يحترم البسطاء، إلى أي مدى يحترم الإنسان. وكان يمتعض من الآيديولوجيين والجدليين.

عاش شاعر تركيا في رتابة السجن وعتومه. وكان السجناء إذا أرادوا الخروج من الرتابة والتحدث إلى أي فرد غير محكوم، يطلبون موعدا مع طبيب الأسنان. وكانوا جميعا يرون الضوء من قطعة واحدة في السماء، كما يقول أورهان كمال. أما في الخارج فكانت المرأة التي أحبها، زوجته بيريان هانم. وقد كتبت إليه تشكو من أنها قد لا تملك ثمن الخشب لوقود المدفأة ذلك الشتاء، وأن ابنتهما مصابة بالسل ولا تملك كلفة علاجها كما يجب.

وعندما تلقى الرسالة قال لأورهان كمال: «في السجن، في هذا السجن، في قاووش العنبر رقم 2، جمعت ذات مرة أعقاب السجائر وأمضيت 48 ساعة بلا شيء آكله، سوى كسرات الخبز الجاف، ومع ذلك لم أشعر باليأس الذي يخامرني الآن».