في ذكرى «14 تموز»

TT

قدموا في بغداد أيام العهد الملكي مسرحية تتضمن تشييع جنازة كتبوا عليها «العدالة». الفكرة مستوحاة من الحكاية الفرنسية عن المحامي الذي رأوه يخرج من المحكمة يصرخ ويبكي بمرارة. سألوه: ماذا؟ ما بك؟ قال: ماتت! قالوا: من؟ زوجتك؟ قال: لا، أعز من زوجتي. قالوا: ابنتك؟ قال: لا، أعز منها. قالوا: والدتك؟ قال: لا، أعز منها. قالوا: قل لنا يا رجل، من التي ماتت؟ قال: أعز منهن جميعا. العدالة ماتت.

غدا يحتفل العراقيون بذكرى ثورة «14 تموز». وأعتقد أن من المناسب لهم أن يخرجوا في مواكب حاشدة، يكشفون عن صدورهم ويلطمون وينحبون وينوحون وراء جنازة يكتبون عليها «العقل». ففي يوم 14 يوليو (تموز) 1958 فقدوا عقولهم وقاموا بقتل الملك الطفل فيصل الثاني وأبادوا كل من كانوا معه من أسرته. ولكنهم في تلك العملية قتلوا من هو أعز منه وأعز من كل من كانوا معه. قتلوا العقلانية والعلمانية العراقية. وبموت العقل والعلم غرقت بغداد في حمام من الدماء والبشاعات في سَورة من الجنون والأعمال الجنونية الشيزوفرينية المحمومة. من شأن الشيزوفرينيا أن تخمد نوبتها مثلما تتقد في ساعات. بيد أن نوبة ذلك اليوم لم تخمد واستمرت إلى يومنا هذا.

لم تخمد لأنه «ماكو» كهرباء في بغداد. فالمعتاد أن الأطباء يعالجون الشيزوفرينيا الحادة بصدمات كهربائية، ولا يوجد كهرباء كافية لها في العراق. ما يوجد منها يفضلون استعماله في تبريد جثث الموتى من ضحايا الإرهاب الجنوني.

مات العقل. وبموته تسلم شؤون البلد شلة من المجانين، تناوبوا عليه واحدا بعد الآخر، وفي كل مرة يحمل الواحد منهم مديته ويذبح الآخر. وفي ظلهم، انبثت بين الناس شلل من المجانين يروون حكايات مجنونة وينطقون بكلام مجنون ويرفعون شعارات جنونية ويقتلون ويشردون أي امرئ تبدو على وجهه أعراض العقلانية، ويقول أشياء لا يفهمونها وتبدو لهم هذيانا وكفرا. فتستر الناس على عقولهم وهربوا بها للخارج.

من معالم موت العقل أنهم إلى الآن يتصورون أن «14 تموز» يوم مجيد من تاريخ العراق. فمن أول أعراض الجنون أن صاحبه لا يميز بين الخطأ والصواب وبين الخير والشر، فيرمي بالجنون كل من يشكك في قدسية ذلك اليوم.

ازدهر العهد الملكي في فترة الخمسينات التي يعترف كل العراقيين، بل وكل العرب الآخرين أيضا، أنها كانت العهد الذهبي للفكر العراقي المعاصر يوم أصبحت بغداد قبلة المفكرين والمثقفين العرب، يقصدونها ليتعلموا منها، ويوم عجت مقاهيها ونواديها بتلك الأسماء اللامعة من المجددين، الجواهري والسياب والبياتي ونازك الملائكة، وكل أولئك الفنانين الكبار، جواد سليم وفائق حسن وشاكر حسن، وموسيقيين من طراز منير بشير وسلمان شكر. جاءت «14 تموز» وأحرقتهم جميعا غير اللطامين والاصوليين والإرهابيين، وحل الجهل محل العقل والتخلف محل التطور. اخرجوا يوم غد وشيعوا جنازة العقل وارفعوا أيديكم عاليا والطموا وراءها.