هؤلاء الراحلون شاركوا في معارك الحوار

TT

خطف الصيف الحار أنفاس كوكبة من رجال الدين والثقافة والسياسة، في المشرق والمغرب. وعلى اختلاف اهتماماتهم الثقافية والدينية، فما يجمع بين أفراد هذه النخبة الراحلة مشاركتهم في الحوار الصاخب المستعر، منذ نحو ثلاثين سنة بين الديني، السياسي، الثقافي، والعلماني.

أنا هنا، في هذه الرقعة التي تزيد قليلا على حجم طابع بريد تذكاري، ليس في وسعي تقديم مشهد كامل لتفاصيل الحوار. إنما أقتصر على رسم لوحات شخصية سريعة لهؤلاء الراحلين، لعلها تمكن القارئ العربي لصحيفة يومية من الإحاطة بمجمل مواقفهم، أفكارهم، وبحوثهم.

وكعادتي، لا أقدم تقريظا ورثاء في وداع الراحلين، مجاملة لأنصارهم. غرضي الوحيد خدمة الرأي العام، حتى لو عرضني ذلك، كما هي العادة، إلى هجمات الراثين المجاملين. أو المصدومين بمعلومات عن الراحلين كانوا لا يعرفونها، أو لا يريدون أحدا أن يذكرها ويعرفها.

الراحل محمد حسين فضل الله أنموذج للتشيُّع العربي القريب من التشيع الفارسي في المذهب، والمختلف عنه في هموم أمته العربية. كان فضل الله سيئ الحظ، فقد رافقتْ عودته إلى لبنان من النجف عودة رجل دين آخر من قم. كان موسى الصدر يفوق فضل الله، طولا وعرضا وجاذبية، شعبية وسياسية، وإن لم يكن يفوقه علما، أو طلاقة في فصحاه العربية.

لكن من حسن حظ فضل الله أن الصدر رحل فجأة (غُيّب خلال زيارة مشؤومة إلى ليبيا). ورحل معه، بحكم السن أو القتل، علماء كبار للشيعة في العراق وإيران. بذكاء، أعلن فضل الله مرجعيته الدينية للإسلام الشيعي العربي (1997). في الوقت الذي أكد طلاقه التنظيمي والروحي مع حزب الله الذي شارك في تأسيسه في أوائل الثمانينات، وأصبح لفترة قصيرة زعيمه الروحي. تلك الزعامة التي كادت تكلفه حياته، عندما الْتَهم تفجير مروِّع تجمعا دينيا لأنصاره.

واتُّهمت الـ«سي آي إيه» بتدبير مخطط الاغتيال، بحجة الزعم أن فضل الله شارك في التخطيط للمجازر التي حلت بالقوات الأميركية التي نزلت في لبنان، في أعقاب الغزو الإسرائيلي (1982). وفيما أعلن حزب الله ولاءه لولاية الفقيه (علي خامنئي)، اكتفى فضل الله برعاية مرجعيته العربية المستقلة عن قم وخامنئي، وأخفى بمهارة رعايته لحزب الدعوة الذي يحكم العراق.

في ابتعاد حسين فضل الله عن هموم السياسة اليومية، تمكن من التفرغ، نظريا، للتقريب بين المذهبين الشيعي والسني. إنجابه لأحد عشر ولدا وبنتا لم يمنعه من الدعوة الدائمة لإعادة قراءة الاجتهاد الديني. أنجب فضل الله أيضا اجتهادات وفتاوى فيها جرأة وطرافة: كان مع الالتزام، لكن ضد التعصب، مع رفض التكفير، مع المرأة، مع منحها «الحق» في ضرب زوجها، إذا ضربها، ومع الامتناع عنه جنسيا إذا هجرها.

إذا كانت حروب حسن حزب الله غَطَّت على رفض حسين فضل الله العنف، فقد خاض المفكر المصري نصر حامد أبو زيد حروبا من نوع آخر، حروبا شنها عليه الإسلاميون والمتزمتون، ودافع عنه فيها المثقفون والعلمانيون، ونجا هو منها بهجرته إلى منفاه الهولندي.

لا أعرف مفكرا بجرأة هذا المفكر على التحدي مهما نال منه خصومه، فقد أجبروه على التخلي عن منبره الأكاديمي، بل استصدروا حكما قضائيا بتطليقه من زوجته، بحجة أنه «كافر ومرتد». لم تقبل الزوجة ابتهال يونس التفريق. التحقت بزوجها في المنفى. عادت معه إلى الوطن بعد خمس عشرة سنة. ظلت بقربه إلى آخر يوم في حياته التي انصرمت فجأة منذ أيام.

أبو زيد مفكر وباحث أكاديمي تخصص في علوم القرآن، مركزا على تفسيره، متحررا من المراجع والاجتهادات القديمة المتَّبَعة في المعاهد الدينية، بل ذهب إلى القول إن كون النص «إلهيا لا يعني عدم قابليته إلى التحليل».

ينعى أبو زيد على الحركة الإصلاحية الدينية عدم مس العقل التراثي «الذي لم يعد قادرا على إنتاج المعرفة». وينعى على الحركة الحداثية العربية النهل من الحداثة التنويرية الغربية، من دون إبداع عقل عربي جديد غير متأثر بالمقولات الأوروبية.

كان أبو زيد متمردا، يعيِّر الجيل الجديد بقلة وعيه بالتاريخ. وفهمه للتراث بالتمسك بالمظهر والإيمان من دون يقين. عاب على المتزمتين منعهم الصلاة على جثمان نزار قباني في أحد مساجد لندن. في منفاه، لم يكن أبو زيد مجاملا للأوروبيين، يقول لهم إنه لم يأت إليهم لتسفيه الإسلام، مصرا على أنه مسلم مؤمن، يحرص على أن يبدأ محاضراته الموسوعية بالبسملة وتلاوة الشهادتين.

ما الفرق بين نصر حامد أبو زيد ومحمد عابد الجابري؟ كلاهما جمع بينهما الموت في سن النضج، كلاهما مفكر عميق، كلاهما باحث موسوعي، ركز الأول على موضوع أكثر حساسية: دراسة علوم القرآن، فيما ركز الجابري على الموضوع الأسهل، لكن الأجدر بالاهتمام: دراسة العقل التاريخي العربي والإسلامي. توصل الأول إلى نقد المرجعية التقليدية في الاجتهاد «التي لم تعد توافق العصر». فأثار عليه المرجعية التقليدية السنية.

في دراسته الموسوعية للعقل التاريخي العربي، توصل الجابري إلى المصالحة معه! لم يتمرد على ثوابته، كما فعل المصري أبو زيد، أو ندُّه المغربي عبد الله العروي. كان الجابري إصلاحيا متأدبا، إلى درجة أنه توفي قبل أن يستكمل دراسته برسم منهج متكامل لإصلاحية العقل، من دون ثورة عليه، من هنا كان تفجع المفكرين الإسلاميين عليه يفوق طلبهم المغفرة للمتمرد أبو زيد.

لم يحفل الجابري بنقاده، آثر العزلة بتواضع، لا عن غطرسة. كان يؤمن إيمان العالم بأنه أدى عملا فكريا جليلا لم ينافسه فيه منافس. لكن جورج طرابيشي لاحقه (بلا هوادة) على مدى يقرب من عشرين عاما، وكان رد الجابري عليه بأنه يترك الحكم للقارئ مع غمز من «طائفيته».

عرفت جورج طرابيشي منذ 52 سنة، كان زميلا لي في صحيفة «الوحدة» في عهد الوحدة المصرية السورية، أشهد أني رأيت جورج يشارك في المظاهرات الشعبية التي قاومت الانقلاب الانفصالي صبيحة وقوعه. لم ألتق جورج بعدها إلا لقاء عابرا في باريس، هل بات طرابيشي أيضا «طائفيا» خائفا على المسيحية العربية من «إصلاحية» الجابري العقلانية؟ لست أدري.

كنت أتمنى أن تتسع مساحة طابع البريد للحديث عن راحلَيْن آخرين: محمد مزالي السياسي، ومحمد عفيفي مطر الشاعر. عندما اكتشف الحبيب بورقيبة خطأ نصيحة وزيره الأول بتسييس المد الإسلامي، فر مزالي إلى المنفى، عاد بعد موت بورقيبة، وبعد فرار المتزمتين من تونس.

مات مزالي نادما. مات عفيفي مطر متمردا. هرب من السادات إلى صدام! صفح عنه مبارك، فعاد إلى امتداح احتلال الكويت، أدّبه مبارك «صدّاميا»، صفح عنه مرة أخرى شاعرا موهوبا. دفن الشاعر عروبته «الصدّامية» معه في طين قريته المعزولة.