إلى أين وصل حلم «الوحدة العربية» بعد قرن؟!

TT

القمة العربية المصغرة التي انعقدت في ليبيا، مؤخرا، لم تحتل في وسائل الإعلام العربية والأجنبية إلا حيزا صغيرا جدا، قياسا بأخبار بطولة العالم لكرة القدم.. ولا عجب. فمنذ سنوات وسنوات فقدت جامعة الدول العربية - عفوا: «اتحاد الجامعة العربية»، كما اتفق على تسميتها في هذا اللقاء - أهميتها في نظر الشعوب العربية والدول الأجنبية. وعبثا يحاول البعض، وفي طليعتهم الأمين العام للجامعة، عمرو موسى، بعث الحياة في هذه المؤسسة القومية الجامعة للدول العربية، وعلى الرغم من بعض المنجزات التي تحققت على يدها، فإن تجارب خمسة وستين عاما من وجودها، لم توصل الشعوب والدول العربية إلى أي نوع أو شكل من التوحد أو الاتحاد أو الوحدة، اللهم إلا حول القضية الفلسطينية. وهنا أيضا، التوافق مبدئي، أما عمليا وواقعيا فإن اجتهادات التعامل مع هذه القضية، متعددة ومتناقضة ومسببة لانقسامات عميقة في ما يسمى بالصف العربي.

إن من يتملى في «حالة» الجامعة العربية وفي الواقع العربي السياسي، اليوم، لا يستطيع أن يمنع نفسه من الخلوص إلى الحقيقة الوحيدة وهي أن «شيئا ما» شل ولا يزال يشل توحد «الأمة» أو «الدول» أو «الشعوب» أو «الأقطار» العربية. قيل، يوما، إنه الاستعمار، ويوما آخر: الأنظمة. وكانت الانقلابات العسكرية والآيديولوجية القومية الوحدوية ووحدة مصر وسورية، (والعراق وليبيا وغيرهما، فيما بعد) تحت قيادة «صلاح الدين جديد»، هو الحل.. وجاء انفصال سورية وهزيمة 1967، ليطيح بكل تلك الرؤى والمشاريع الوحدوية الاندماجية العفوية والعاطفية. وقيل إن العلة هي في الشعور الوطني القطري، وفي الفئة البورجوازية الكبيرة والصغيرة الحاكمة، ورفعت رايات الثورية والاشتراكية والمقاومة المسلحة، ثم نكست تلك الرايات بعد فشل مشروع المقاومة الفلسطينية و«الحركة الوطنية» في لبنان، وبعد قيام أنظمة عسكرية في أكثر من دولة عربية، وبعد سقوط الاتحاد السوفياتي والعقيدة الشيوعية معه. وما أدى إليه ذلك من تنافس وتعاد بين الأنظمة العربية (سورية والعراق، مثلا)، وإلى صعود المد السياسي الإسلاموي، لا سيما بعد قيام الثورة الخمينية في إيران وردات الفعل الدينية والسياسية العربية على مشروعها الشرق أوسطي.. إلى أن وصلنا إلى ما وصلنا إليه، اليوم، ولا داعي لتفصيل سلبياته، فهي ماثلة أمام كل عين.

كلا، ليست العلة في «اسم» الجامعة. ولا في ميثاقها. ولا في كونها - كما قيل - تكرس انقسام «الأمة العربية» إلى عشرين كيانا ودولة ونظام حكم، وتقدم الولاءات والمصالح القطرية الوطنية على «مصلحة الأمة العليا القومية». ولا في وجود «مؤامرة دولية - استعمارية - صهيونية - صليبية»، تعرقل أو تعطل توحد العرب والمسلمين. بل العلة هي في الفكر السياسي العربي. هي في الواقع الاجتماعي والاقتصادي والإنساني العربي. هي في «لا واقعية» و«لا عقلانية» العلاجات التي توصف لمعالجة حالة الانقسامات والعداوات والعصبيات والنعرات العرقية والطائفية والمذهبية التي تشل تقدمه وتقارب شعوبه وتوحيد كلمة الأنظمة التي تحكمه.

وأخطر من كل ذلك هو «الحل» الذي تقترحه جماعات كـ«طالبان» و«القاعدة» وغيرهما من غلاة التطرف السياسي الديني بزجهم العرب والمسلمين في حرب مفتوحة لا مع الولايات المتحدة، فحسب، بل وأوروبا وروسيا - وربما غدا مع الصين والهند - أي مع ثلاثة أرباع البشرية، معتقدين بأنهم يستطيعون التغلب على هذه الدول التي تملك آلاف القنابل النووية والصواريخ الموجهة وكل الصناعات المتطورة.. وكيف؟!... بفرض قيود على إنسان القرن الواحد والعشرين، تعود به ألف قرن إلى الوراء، وبمنع البنات من الذهاب إلى المدرسة ومنع النساء عن العمل والخروج من البيت؟!

إن كل من يحمل هاتفا جوالا أو من في منزله تلفزيون أو راديو يستطيع أن يطلع على ما يجري في العالم، اليوم. وأن يدرك بأن العالم أصبح واحدا.. ومصير البشرية، مشتركا. وأن ما من شعب أو دولة تستطيع تبصر المستقبل خارج المجتمع الدولي، الذي ترسم المنظمات الدولية معالمه. فلا الولايات المتحدة ولا الاتحاد الأوروبي ولا غيرهما من الدول الكبرى، يستطيع الاستغناء عن العالمين الإسلامي والعربي وعن أفريقيا، في التخطيط للمستقبل. كذلك لا يمكن للعرب والمسلمين، أن ينظروا أو يخططوا للمستقبل، انطلاقا من تفكير سلبي رجعي إرهابي، معاد لثلاثة أرباع البشرية.

كلا، لن تحل مشكلة العرب والعروبة، بتغيير اسم جامعة الدول العربية أو ميثاقها، ولا على يد «القاعدة» و«طالبان» ومن رفعوا الشعارات الدينية السياسية بدلا من الشعارات القومية والثورية الاشتراكية، بل بإحلال التفكير الإيجابي محل التفكير السلبي. بل بتقريب مصالح الدول والشعوب العربية تدريجيا من بعضها البعض. بل بإقامة اتفاقات ثنائية وثلاثية بين الدول العربية المتجاورة (دول الخليج، دول الهلال الخصيب، دول وادي النيل، دول المغرب الكبير)، بل بتحقيق الاكتفاء الغذائي، بل بتوحيد الصف الفلسطيني. بل بتنمية الموارد والصناعات المتقدمة. بل بتطوير الحياة السياسية العربية نحو مزيد من الشورى والديمقراطية والحرية واحترام حقوق الإنسان.

إن حلم الوحدة العربية الذي تبلور منذ قرن ونيف، بقي حلما. بل باتت أكثر من دولة من الدول العربية العشرين، مهددة بالتقسيم أو الانفراط أو الحرب الأهلية. والصراع ضد إسرائيل الذي ما زال يوحد الصفوف العربية، بات، اليوم، يشكل موضوعا لانقسام الفلسطينيين والعرب على أنفسهم. ومن يدري.. فقد يتحول مشروع بعث الأمة الإسلامية وعودة «الخلافة» وانبعاث النزاع السني - الشيعي، إلى مزيد من النزاعات والفتن والانقسام في الواقع العربي. هذا إذا لم يدفع به وبالعالم، إلى حرب نووية عالمية.

ترى، هل انطوى حلم الوحدة العربية نهائيا؟.. أم علينا أن نكتفي بتحسين وإصلاح وتطوير وتحرير وتقدم الواقع العربي، بديلا؟!