التفكير في مستقبل المياه

TT

نفكر كثيرا في المزايا الاستراتيجية الكبيرة للعالم العربي من أول وجود البترول وحتى الوجود على المضايق المهمة والطلة الكبيرة على بحار حاكمة على حركة التجارة والتواصل والمواجهات في عالمنا المعاصر. مثل هذه المميزات الكثيرة لم نستفد منها بالدرجة الكافية، وفي كثير من الأحيان كانت وراء هجمات استعمارية. وأثناء الحرب الباردة كنا في نقطة الاعتصار بين قوتين جبارتين ومسلحتين حتى الأسنان وتتنازعان السيطرة على الدنيا كلها. ولكن أبرز نقاط الضعف في الجغرافيا السياسية كانت اعتماد العرب كلهم تقريبا على مصادر للمياه تنبع من أراضي دول أخرى لها تصوراتها هي الأخرى عن موقعها في المنطقة وفي التاريخ أيضا. وعلى مدى التاريخ تدفقت مياه كثيرة في الأنهار في اتجاه سورية والعراق من تركيا؛ كما اندفعت مياه أكثر من إثيوبيا والبحيرات العظمى نحو السودان ومصر. ولأوقات كثيرة كان كل ذلك يعتبر من طبيعة الأشياء، وقامت حضارات عظمى على افتراض أن هذه المياه سوف تستمر في تدفقها، ولكن العقود الأخيرة بدأت تضع حدودا على ما كان من الطبيعة، وجاءت الأزمات في وقت من ناحية تركيا، وكانت كامنة منذ زمن من اتجاه إثيوبيا حتى انفجرت مؤخرا.

وما حدث شاعت به الأخبار، ولكن الأنباء عند ترتيبها تفرز نوعين من التصورات حول مياه نهر النيل: تصور مصري شاع منذ فترة يقوم على التمييز ما بين «حوض النيل» و«نهر النيل»؛ الأول يشكل مجموع المياه التي تسقط على دول الحوض التسع، وهذه كثيفة وكثيرة ولا تحد، وتبلغ في المتوسط 1660 مليار متر مكعب من المياه. والثاني يجري فيه قدر محدود من مياه الحوض لا يزيد كثيرا على 100 مليار متر مكعب من المياه، أي نحو 6% فقط مما هو متاح بالفعل. وهكذا فإن المسألة هي الكيفية التي يتم بها توفير المزيد من المياه من خلال مشروعات تتيح لهذه المياه ألا تضيع في البحر أو تتبخر أو تبقى في مساحات شاسعة من الأراضي تخنق التربة وتمنع عنها الهواء اللازم لجعلها أراضي زراعية. والقضية هكذا لا تدخل في نطاق الاستحالة وهناك ما يكفي الجميع، ومشروع «جونجلي» مثال لقناة تقوم بتجميع مياه الحوض وتتيحها للنهر بما يصل إلى سبعة مليارات من الأمتار المكعبة، وهناك من المشروعات الأخرى المماثلة ما يوفر 25 مليارا إضافية تعطي المياه وفوقها الكهرباء أيضا.

التصور الآخر أفريقي، إثيوبي في جوهره، يقوم على أن كل هذه المشروعات تحتاج إلى وقت، ومع الوقت إلى أموال طائلة. وفوق هذا وذاك أن الزيادة السكانية التي وصلت إلى 85 مليون نسمة في إثيوبيا وحدها لم تعد تحتمل الانتظار، خاصة أن الدولة الإثيوبية، وغيرها من دول وادي النيل قد عاشت المجاعة والحروب الأهلية والانفصالية لسنوات طوال. ولذا فإن على دول الحوض أن تمضي في مشروعاتها التنموية بغض النظر عما إذا كانت هذه المشاريع سوف تؤثر على مصر والسودان أم لا.

وبالطبع فإن الحال كما هو حادث في كل المنازعات الدولية لا بد أن يدخل فيه القانون والسياسة والاقتصاد؛ ومصر والسودان تعتمدان على اتفاقيات دولية تم توقيعها في أعوام 1902 و1929 مع إثيوبيا؛ وهذه الأخيرة مع غيرها من دول حوض النيل رأت في الأمر كله ما ينتمي إلى الفترة الاستعمارية حتى ولو كانت إثيوبيا مستقلة ساعة التوقيع. ولكن ما هو غائب عن الصور أنه سواء كان التصور المصري هو المطروح، أو الإثيوبي، فإن كليهما يقوم على فكرة التنمية التي تستغل مياه الحوض في الحالة المصرية، ومياه النهر في الحالة الإثيوبية.

هنا تصبح القضية قائمة على أرضية واحدة وهي المشروعات التي تستغل مياه الحوض، وتولد الكهرباء للجميع، وتحقق التنمية لكل الأطراف. وفي كل الأحوال فإن المشروعات ليست قائمة على الأبواب تبحث عمن يقيمها، ولكنها تحتاج لجهد خاص لجذب الاستثمارات للتعامل مع مسائل إقليمية معقدة. والمدهش أن ذلك كان هو الهدف من «مبادرة» مياه النيل؛ أن تكون هناك هيئة إقليمية لها مفوضية تكون قضيتها الرئيسية هي عمليات التنمية في الإقليم كله، وهي فكرة طموحة يمكن تنفيذها وإقناع العالم بها بدلا من مشروعات تعتمد على مصر وحدها أو مشروعات تسعى إليها إثيوبيا وحدها أيضا.

على أي الأحوال، فإن المسألة تعدت مرحلة الأزمة، وباتت القضية كلها في أيدي الدبلوماسيين والساسة، وهم يعبرون عن رغبة في ألا تخرج القضية عن السيطرة. ولكن مع ذلك تظل قضية المياه قائمة خاصة أن توزيع الوجود المائي كثيرا ما يكون غير متوائم مع الوجود السكاني، ولا حل للمعضلة إلا بالبحث عن طرق جديدة للحصول على المياه. وفي الدول العربية الخليجية تم حلها عن طريق تحلية مياه البحر، وكان وجود الطاقة مساعدا على توفير مياه تكفي للشرب وبتكلفة اقتصادية معقولة هي تكلفة لا تستطيعها معظم الدول العربية الأخرى. ولكن المسألة كلها ذات طبيعة تكنولوجية، وقد نجحت إسرائيل مؤخرا في تلبية نصف احتياجاتها من المياه عن طريق تحلية مياه البحر باستخدام وسائل جديدة ورخيصة نسبيا؛ ولا يوجد ما يمنع العديد من الدول العربية من أن تبحث هي الأخرى عن أنجع الطرق التي تجعلها تحصل على مياه الشرب على الأقل بأسعار معقولة.

وبالنسبة لمصر في كل الأحوال فإن مناطق التمدد العمراني الجديدة تقع على البحر، سواء الأبيض أو الأحمر، أو خليجي العقبة والسويس، وبعيدا عن نهر النيل. ولا يبقى من حل إلا استخدام أشكال جديدة من الطاقة غير المكلفة. ومن هنا فإن الطاقة النووية تصبح لا غنى عنها لمواجهة زيادة عدد من السكان يقترب من 100 مليون نسمة بسرعة مخيفة حتى يمكن تحلية مياه كافية للتوسع العمراني والسياحي وحتى الصناعي.

ومع ذلك فإن المستقبل كله يكمن في الطاقة الشمسية التي - رغم تكلفتها العالية - تمثل الأمل خاصة مع التطورات الجارية الآن في قدرة تخزين الخلايا الشمسية. المشكلة هي أنه لم تكن هناك أبدا إرادة كافية لكي نتعامل مع قضية جوهرية بهذا الحجم. وليس مطلوبا بالطبع أن تتنازل لا مصر ولا السودان عن حقوقهما التاريخية في مياه النيل، ولكن المهم أيضا - سواء كان ذلك للقاهرة أو الخرطوم أو أديس أبابا - هو بناء استراتيجية تنموية تتعامل مع المياه ومصادر الطاقة والتنمية الشاملة بعقول مفتوحة. وقبل أن يحدث ذلك ربما يكون في صالح الجميع أن تصبح اللهجة أكثر هدوءا، والصوت أقل علوا، فلا يزال هناك من الوقت والمياه ما يكفي الجميع.