الدولة وموظفوها والحب الدائم

TT

في مصر رفعت الحكومة المصرية يديها مستسلمة عاجزة عن إكمال مشاريع التخصيص، وأوقفت بيع ما تبقى في القائمة الطويلة من مؤسساتها الحكومية. بذلك تنهي أقدم تجربة انفتاح اقتصادي في العالم العربي بدأت في منتصف السبعينات. أما لماذا؟ ربما لأن المصريين يحبون العمل مع الدولة، علاقتهم بها مقدسة. كل شواهد جدران الأضرحة والمعابد الفرعونية تقول إن الشعب كان موظفا في سلك الدولة، فمن الذي يظن أنه قادر على تغيير تراث عمره سبعة آلاف عام؟

وأعتقد أن الحكومة المصرية خيرا فعلت عندما قررت الاستسلام، لأنها لن تستطيع جعل المصريين مثل اليابانيين الذين يؤدون تحية العلم كل صباح في طابور لشركاتهم في مصانع «تويوتا» و«سوني». الرسالة وصلت؛ لن يرضعوا من غير ثديي الدولة فلا داعي لتغيير التاريخ والواقع القائم.

أما في الدولة الإيرانية، التي تماثل مصر في عدد السكان، فإن الأمر مختلف بعض الشيء. فالحكومة أكثر حماسا لبيع مؤسساتها للقطاع الخاص. إنما مفهوم البيع هنا مختلف، فالقطاع «الخاص» المشتري هو الحرس الثوري، الذي أسس عشرات الشركات لإنتاج النفط والشحن والهاتف، ثم قام بشراء مؤسسات الحكومة. طبعا الحرس الثوري ليس قطاعا خاصا، بل في عمق القطاع الحكومي، لكن هذه هي الطريقة النجادية في التخصيص. لأن الحرس الثوري جزء من الدولة يفترض أن ميزانيته تأتي من الحكومة، وبالتالي هل ما يفعله هو شراء، كما يسمى هناك، أم استيلاء، أم مجرد نقل صلاحيات؟

نحن أمام تجربة فريدة لم تخطر على بال أي من الأبوين آدم سميث أو كارل ماركس، ليست رأسمالية ولا اشتراكية.

لكن إيران بحكم ظروفها تفرق بين التقشف والرفاهية. ففي دول الخليج عندما تريد الحكومة تدليل موظفيها تمنحهم المزيد من الإجازات. في طهران السبب مختلف. عندما ارتفعت الحرارة، في الأسبوع الماضي، أمرت الحكومة أكثر من مليوني موظف بالجلوس في بيوتهم. حجتها الحر اللاهب، لكن السبب الحقيقي رغبتها في توفير تكاليف الكهرباء. فالدولة تريد اختصار النفقات، وتخشى أن زيادة الأحمال قد تقطع الإمدادات، والبلاد مقبلة على حصار أشد قسوة حيث لا يوجد ما يكفيها من مشتقات البترول من ديزل وبنزين، ولن تستطيع إنفاق المزيد على شراء مولدات لو احترقت الحالية، وإن حاولت شراءها ستجد صعوبة في تصريف الريال بدولارات إلا بأثمان مكلفة، وهي هنا صارت بين خيارين إما أن تصرف أموالها على محطات كهرباء أو محطات نووية.

فهل هي حرارة ربنا أم أنها مقاطعة أميركا التي تسببت في الإجازة؟

وأقر بأن الحكومة الإيرانية هذه المرة على حق، فهي تعرف أن معظم موظفي الدولة عادة عديمو الفائدة مع الاعتذار للأغلبية الساحقة من القراء. وتعتقد أن ذهابهم للعمل يزيدها أعباء، وبالتالي فإن إبقاءهم في منازلهم أسبوعا كاملا، خير وسيلة

لتقليل نفقاتها مع إدخال الفرحة على مليوني عائلة في أيام الإجازات الصيفية المدرسية. وإيران ليست البلد الوحيد الذي يشكل موظفوه عبئا لا نفعا، بل هي حال كثير من الدول، بما فيها الحكومات الغربية، مع أن القطاع الحكومي نسبته أقل.

أما لماذا تحب الحكومات إنفاق معظم مداخيلها على موظفين أقل إنتاجية، فالسبب بسيط في نظرها، الموظفون هم الدولة، وتقليصهم يعني مسا بقيمة الدولة وأهميتها.

أما لماذا تفضل الحكومة تكليف جيش من موظفيها بالعمل رغم أنها تستطيع تنفيذه بأرخص وأسرع عبر شركات خاصة، السبب يكمن في الولاء. فالحكومة تعتبر ولاء موظفيها لها، أما موظفو الشركات فولاؤهم لملاكها. وهذا إلى حد ما صحيح، باستثناء أن المنتج النهائي هو المشكلة. وطالما أن الحكومات والمواطنين لا يريدون الطلاق فلا داعي لتقليد الحكومات الغربية، وبالتالي فالأمر الواقع هو خير ما يمكن القبول به.

[email protected]