دولة إسرائيلية في ألمانيا

TT

كتب جوناتان فريدلاند في صحيفة «الغارديان» مؤخرا أن «إسرائيل لم تفتقر يوما للأعداء، لكن يخشى الآن أن تكون قد بدأت تفقد أصدقاءها». وهو كلام منمق بالنسبة لما يمكن أن تسمعه من نشطاء السلام الغربيين الذين يقولون لك حين تلتقيهم، صحيح أن «موقف حكوماتنا لم يتغير لكننا سنلزمهم، عاجلا أم آجلا، باحترام وجهة نظرنا». هؤلاء النشطاء الذين يتزايدون بسرعة، وتتصاعد حماستهم كلما أمعنت إسرائيل في منع المساعدات عن غزة، أو اعترضت سفينة جديدة، يمكنك أن تسمع منهم ما لم يكن يخطر لك على بال. أخبرتني ناشطة هولندية زارت فلسطين لعدة مرات، وما تزال تخطط للذهاب إلى هناك، أنها لم تكن لتشعر بضرورة التضحية لولا أن الصور التي شاهدتها عن حرب لبنان ومن ثم حرب غزة كانت مروعة. وتروي هذه الناشطة أنها آتية من بلد هو من أشد المناصرين لإسرائيل والداعمين لقضيتها، لكن الحماقات الدموية التي ارتكبتها إسرائيل في السنوات الأخيرة جعلتها تراجع حساباتها بقوة. هولندي آخر، لا يقل حماسة عن مواطنته يحدثك وكأنه ينتمي إلى تيار المقاومة العربي، وهو يقول: «إن دماء الأتراك التي سالت على متن أسطول الحرية لم تذهب هدرا، وإن مقتل تسعة أشخاص، جعل صورة إسرائيل شنيعة وصادمة في أوروبا». ويتفق الناشطان معا على أن «المحرقة النازية مرّ عليها أكثر من نصف قرن، ودفعت أوروبا ثمنا باهظا لها، وآن لإسرائيل أن تعود لرشدها». ثم لا بد أن تظن نفسك أمام متطرفين عربيين حين تسمعهما يقولان: إنه «كان على الألمان كي يكفروا عن ذنبهم أن يمنحوا اليهود قطعة أرض في ألمانيا ليقيموا عليها دولتهم بدل أن ترسلهم هنا لارتكاب مجازرهم بحق الأبرياء».

هذا لا يعني أن كل الأوروبيين يفكرون على هذا النحو، لكن تيارا جديدا استولدته إسرائيل، بفضل غبائها المتزايد، وإيمانها الأعمى بأن العالم ما يزال رهين الأخبار التي تنقلها «سي إن إن» ووسائل الإعلام التي تملك زمام السيطرة عليها. وبالتالي بمقدورها أن تشن الحرب التي تشاء، وتقتل العدد الذي تريد، وتحجب أخبار الأسلحة المحرمة التي تستخدمها، وتتلاعب بالصور التي تقدمها للعالم.

«تويتر» و«فيس بوك» كما المدونات، ليست فقط عدوة للقمع الإيراني، ولكنها مسرح ممتاز لعرض الفضائح الإسرائيلية أيضا. وحسب ما فهمنا من نشطاء السلام الذين قابلناهم، فإن المتطوعين، في الغالب، هم الذين يبحثون عمن ينظم ذهابهم وليس العكس. والتوجه إلى غزة أو الضفة، يعني إما أخذ إجازة غير مدفوعة من العمل، أو التضحية بالإجازة السنوية، ويعني كذلك دفع تذكرة السفر، وتكاليف الإقامة. وثمة من تبرع بشراء أشجار زيتون وذهب إلى فلسطين ليزرعها تعويضا رمزيا للفلسطينيين عن أشجارهم التي اقتلعتها إسرائيل.

كل هذا ما كان ليتيسر لولا الإنترنت والفضائيات. غالبية السفن التي ترسل إلى غزة لا تصل إلى مبتغاها المعلن، وربما يعرف أصحابها ذلك سلفا، لكن كل سفينة تحاول أن تفك الحصار، ترافقها حملة إعلامية هي ليست في صالح إسرائيل، وتظهرها كدولة عدوانية تجوّع شعبا تحت الاحتلال وتمنع عنه الغذاء والدواء.

إسرائيل في ورطة، إن هي تركت السفن تكسر الحصار، وفي ورطة أكبر إن هي منعتها. ومشكلة هذه الدولة أنها تأقلمت أكثر مما يجب في الشرق الأوسط وسبقت العرب في عدم فهمها للمتغيرات. وبينما يتم التشبيك بين مؤسسات عربية مدنية وأخرى غربية لتنظيم حملات سلمية يعتبرونها امتدادا للانتفاضة السلمية الفلسطينية، تتابع إسرائيل سياسة مارستها في السبعينات. ومع أن انتفاضة الناشطين الدوليين آخذة في التصاعد، فإن الرد الإسرائيلي عليها لا يتجاوز مهاجمة السفن، ومراقبة المدونات وتكميم الأفواه، وتحريك اللوبي الصهيوني للاستقواء على النساء. فقد قامت حملة على السفيرة البريطانية في بيروت فرانسيس غاي، لمجرد أنها سجلت على مدونتها إعجابها بالسيد محمد حسين فضل الله بعد موته، وشطبت عباراتها وكأنها تشكل خطرا داهما على الدولة العبرية. ولقيت مصيرا أسوأ بكثير الصحافية أوكتافيو نصر التي غطت النزاعات في الشرق الأوسط لمدة عشرين عاما لـ«سي إن إن»، وخسرت عملها، لمجرد أنها قالت رأيها الإيجابي في الراحل فضل الله. ولا بد أنه أمر يدعو للدهشة، أن تخشى إسرائيل اليوم حتى مديح الموتى، ولو كان على مدونة أو على صفحة من تويتر. وكي نفهم أكثر المأزق الإسرائيلي فإن إجبار كبيرة الصحافيين في البيت الأبيض هيلين توماس، على الاستقالة والاعتذار لأنها طالبت الإسرائيليين بالرحيل من فلسطين والعودة إلى بلادهم الأصل، ما كان ليحصل لولا الإحساس بالضغط المتزايد الذي يمثله الرأي العام. فهذه السيدة كما يعترف الإسرائيليون أنفسهم لم تكن يوما محبة لإسرائيل أو مهادنة لها ومع ذلك بقيت في عملها 59 عاما، أما اليوم فالوضع مختلف. من هنا على إسرائيل، بدل أن تمعن في غيها، أن تفكر ألف مرة، قبل أن تشن حروبها التي تهدد بها، وأن تتردد كثيرا قبل أن ترتكب حتى سقطاتها الصغيرة. لهذا طالب الكاتب برادلي بورستن منذ أيام في «هآرتس» بغاندي إسرائيلي بعد أن تراجع الكثير من العرب عن شعار «ما يؤخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة» وتنامت حركات السلام. وبما أن غاندي الإسرائيلي لم يولد بعد، فلا بد أن الحماقات الإسرائيلية التي تقدم للعرب على طبق من ذهب، رغم ضعفهم، وسوء حالهم، ستستمر في الهطول على أرضهم المجدبة.