السيد

TT

كنت بمعية صديق نزور مسؤولا في إحدى الدول الأفريقية، وكان الصديق يهمس لي عن «إجراءات» المقابلات الرسمية في هذا البلد، فالمقابلة المنفردة لها «تسعيرة» والمقابلة الجماعية لها «ثمن» والسلام له «مقابل» والصورة التذكارية لها «المستحق».. وهكذا!

وتذكرت على الفور مدرسة المراسم الأولى في السعودية، السيد أحمد عبد الوهاب، ذلك الرجل الفريد بأدبه وأخلاقه والراقي في أسلوب تعامله مع ضيوفه ومعارفه. هذا الرجل الذي ورثت معرفته من والدي، الذي كان يربطه بالرجل ود ومحبة ومعزة واحترام، حرصت على البقاء عليها، برا بذكرى والدي، حتى تكونت لدي معه وبكل شرف وفخر علاقة وصداقة أطوق بها عنقي.

مجلسه العامر مدرسة بكل معنى الكلمة، فيجتمع فيه أطياف من الناس عرب وأعاجم ومن شتى مناطق السعودية أيضا وبخلفيات اجتماعية واقتصادية وعمرية مختلفة تثري الجلسة بمعلومات وتجارب وآراء مهمة.

ولكن، يبقى «السيد» كما يفضل محبوه مناداته، هو نقطة الجذب بالنسبة للحضور، خصوصا إذا ما أسرد في بحور الذاكرة ليدلي بدلوه في الوقائع والمواقف والأشخاص والأحداث التي عايشها وتعرف على تفاصيلها بشكل شخصي ومباشر، وأتعب محبيه وهم يترجونه بتدوين مذكراته، ولكن دائما ما كان يرفض الطلب.

على الرغم من خروجه من المناصب الرسمية، فإن محبته لا تزال ساكنة في قلوب محبيه بصدق وحق، يرتاد ويعاود مجلسه أصدقاءٌ ومعارف ومحبون يشتاقون إليه، ويعشقون قصصه، وتأسرهم تعليقاته و«لمحاته» المضحكة والساخرة في الكثير من الأحيان.

هو كما عهده الناس إبان ترؤسه للمراسم الملكية، يقدّر الناس ويحفظ مقاماتهم دونما أي انتقاص من قدر أحد ولا المبالغة في قدر أحد، كل ذلك بأدب جم ورقي فريد حتى بات مدرسة في ذلك يُشهَد بها ومضربا للأمثال.

ومنذ فترة عندما ألمت به وعكة، استشعر الكثيرون حجم محبة «السيد» في قلوبهم، وهرعوا إليه ليطمئنوا ويسلموا ويعودوا. إنه رجل من الزمان الجميل، رجل دولة بالمعنى الكلاسيكي والثقيل للكلمة. أكتب في حقه هذه الكلمات بلا موضوعية، فأنا محب ومتحيز، وله أدعو بطول العمر، وبسببه أتحسر على زمان ندر فيه وجود أمثاله. خرج من منصبه مرفوع الرأس نظيف اليد واضحا في علاقاته، مثلما كان عليه قبل ترك المنصب تماما.

وفاؤه للملك الكبير فيصل أشبه بالأسطورة، وصداقته للراحل محمد النويصر يضرب بها المثال، وأخوته للشيخ كمال أدهم فيها من الود والولاء الشيء الكثير، ومحبته لآل فيصل متواصلة بشكل مدهش وأخاذ. له القدرة العجيبة على التواصل مع كبار رجال الأعمال والمسؤولين السياسيين والإعلاميين والمتقاعدين والمصريين واللبنانيين والسوريين والأوروبيين وغيرهم بنفس درجة التفاعل والاهتمام والتركيز والعطاء.

شريط الذكريات الذي يحتفظ به بحيوية في نفسه و«يمنتج» منه ما يشاء ليشارك الناس به بقدر ما يشاء - يبقى دائما الوجبة الأكثر دسامة وإغراء للحضور. له قراءة سياسية مهمة ولافتة، وله قدرة على قراءة تحرك الأحداث باتجاه المستقبل بشكل مدهش. أسر الناس بحسه ورقيه وأخلاقه فكان «السيد» واقعا ونسبا شريفا، فكسب الاحترام ودخل القلوب.

أسأل الله أن يمده بالعمر الطويل والصحة والعافية، وأن يعيده لمحبيه سالما معافى. في ظل التنافس على الألقاب بشتى أشكالها يبقى معروفا للناس الذين عاشروه مكانة موقع «السيد»... وكفى!

[email protected]