ملامح دولة.. في لبنان

TT

على خلفية فشل تجربة الرئيس اللبناني الراحل، فؤاد شهاب، في بناء الدولة المؤسساتية في لبنان، في أواخر الخمسينات من القرن الماضي، وعلى خلفية الإحباط المفجع الذي واجهته عملية خجولة لـ«تطهير» الدولة من الموظفين الفاسدين في عهد الرئيس الراحل شارل حلو، في أواسط الستينات منه، وفي أعقاب ما جرى من تفتيت للبنيتين السياسية والإدارية للدولة مع بدء الحرب الأهلية وإلى ما بعدها (كي لا نقول حتى الآن).. ليس سهلا - وقد لا يكون واردا - التبشير بأن «الدولة»، بمفهومها العصري، اقترب موعد قيامها في لبنان.

التجارب المريرة علمتنا أن منتهى الطوباوية في لبنان الإيمان بقيام الدولة الجامعة والعادلة والقادرة والحاضنة لكل أبنائها... في أيامنا على الأقل.

مع ذلك، قد يجوز البناء على تطورين حديثي العهد للادعاء - وليس التأكيد - بأن احتمال رجوح الدولة المؤسساتية في لبنان على دويلات العصبيات المذهبية والتيارات الحزبية يبدو ممكنا، وإن كان ما زال يحتاج إلى مساومات، وربما صفقات معظمها يبقى «مستورا».

التطور الأول حدث في يونيو (حزيران) الماضي، حين «اقتنعت» كل مكوّنات «السلطة» في لبنان - والشارع أحدها طبعا - بضرورة اتخاذ موقف وسط بين المؤيدين المحليين لمشروع قرار تشديد العقوبات على إيران ومعارضيه، فتوافقت على الامتناع عن التصويت عليه في مجلس الأمن دون إثارة تهم «التخوين» المعتادة في مناسبة كهذه.

قد يبدو قرار لبنان الرسمي الامتناع عن التصويت مع أو ضد القرار بمثابة تهرب أو «لا موقف». ولكنّ المطلعين على تعقيدات صناعة القرار في لبنان وتداخله مع الاعتبارات الإقليمية والمذهبية والحزبية يدركون أن هذا «اللاموقف» كان، بحد ذاته، موقفا قدّمت فيه الدولة مصلحتها العامة على المصالح الخاصة لبعض «مكوناتها» السياسية.

أما التطور الثاني فقد لاح شبحه من خلال «المصالحة» التي رعتها الدولة بين قوات اليونيفيل والمعترضين من أبناء الجنوب اللبناني على بعض تصرفاتها، في وقت بدأت فيه مواقف المعترضين تتخذ طابع الحملة المنظمة لتقليص دور «اليونيفيل» في الجنوب والحد من حرية حركتها، ربما مقدمة للمطالبة بخروجها من الأراضي اللبنانية.

ومع التسليم بأن بعض تصرفات القوات الدولية داخل القرى الجنوبية يثير تساؤلات عن دوافع تجاوزها حدود الصلاحيات الممنوحة لها بموجب القرار الدولي 1701 - مثل التقاط صور فوتوغرافية للأحياء والمنازل وتوقيف أحد أبناء المنطقة - فإن تقديم مصلحة الدولة على الاعتبارات السياسية الأخرى في موقفها من المحافظة على وجود القوات الدولية في الجنوب، كان مؤشرا آخر على أن حسابات «الدولة» لم تعد غائبة عن الحسابات المحلية والإقليمية في القضايا المصيرية على الأقل. ويعزز هذا التطور تضمين صيغة «المصالحة» بين «اليونيفيل» وأبناء الجنوب قرارا بزيادة عديد الجيش اللبناني في الجنوب، الأمر الذي يوحي بأن تعزيز سلطة الدولة في الجنوب لا يزال على قائمة اهتماماتها.

لن نذهب إلى حد الادعاء بأن سيناريو المواجهة الأولية بين جمهور «حزب الله» والقوات الدولية في الجنوب انتهى لمصلحة الجيش اللبناني والدولة اللبنانية. ولكن نشر لواء جديد للجيش في الجنوب يؤكد بأن «اليونيفيل» أصبحت، داخليا، جزءا لا يتجزأ من المعادلة السياسية القائمة حاليا في لبنان، وإقليميا، جزءا أساسيا في المعادلة الاستراتيجية في المنطقة، ما يسمح بالاستنتاج بأن قرار «تطفيش» القوات الدولية من لبنان - كاستقدامها - ليس قرارا لبنانيا بقدر ما هو قرار دولي.

ربما ساهم وقوع الحدثين على أبواب موسم الاصطياف - ولبنان جمهورية «صيفية» بامتياز - وقربهما الزمني من آخر فتنة شهدتها البلاد عام 2008 في لجم تطرف الشارع في التعامل معهما. مع ذلك يبقى لافتا أن يفوت اللبنانيون على أنفسهم، وبإرادتهم، فرصة فتنة سانحة.

طبعا ما زال من المبكر القول بأن لبنان انطلق، بصورة منهجية، في مسيرة بناء الدولة المؤسساتية. ولكن قديما قيل: «تفاءلوا بالخير تجدوه»... حتى في لبنان.