معايير الزمان ومعايير الأخلاق بين الغربيين والعرب

TT

كان من حسن الحظ أن البرلمان المصري، وبعد طول تأمل، قرر ألا يمنع طباعة وتوزيع «ألف ليلة وليلة»، على أثر انتشار الخوف لدى كثرة من أعضائه، من أن هذا الكتاب الحاضر في مجتمعاتنا وثقافتها ويُتداول منذ قرون، صار يشكل في السنوات الأخيرة خطرا على الأخلاق والدين، بسبب الأمزجة «الفائرة» لبعض الشعب المصري من جهة، والأمزجة الشديدة البيوريتانية والتحفظ للبعض الآخر من جهة أخرى! وإن دل هذا على شيء، فإنما يدل على التغير الكبير في الذائقة الثقافية والدينية لدى النخب المتدينة بمصر. إذ على مدى قرون - كما أسلفنا - ما خطر لأحد أن يمنع الكتاب أو يفتي بكراهية تداول مخطوطاته، رغم القصص الجنسي الذي يحفل به، وانطوائه على قيم وممارسات لا يقرها الإسلام!

وعلى غير ما ذهب إليه بعض البرلمان المصري اليوم وأواخر السبعينات، ذهب أكثر الغربيين منذ القرن السابع عشر. فقد تلقت النخب الثقافية الإنجليزية والألمانية والفرنسية ترجمات الكتاب إلى لغاتها بالفرح والدهشة والإعجاب، وكان مثارا لإبداعات في مسارب مختلفة. لكنه - بحسب إدوارد سعيد - كان أيضا مبعثا لانطباعات خاطئة عن الشرق والشرقيين والإسلام. إذ اختلطت في أخلاد الغربيين نتيجة قصص «ألف ليلة وليلة» هلوسات الجنس بالمجتمع العبودي وانحدار أخلاق المرأة والرجل معا. لكن من المؤكد - ونحن نعرف ذلك من آلاف الشواهد - أن هذا الانطباع، إن كان موجودا، فإنه لم يصمد طويلا، بدليل التقارير الكثيرة في كتب الرحلات وفي الدراسات الدينية عن تشدد العرب والمسلمين في المسائل الأخلاقية، وحرصهم الشديد نساء ورجالا في قضايا الشرف والعفاف.

لماذا نذكر هذا كله؟ لأن المسائل الأخلاقية والقيمية عادت تلعب دورا بارزا في علاقات الفهم وسوء الفهم بين الغرب والشرق. فمنذ ما قبل هجمات «القاعدة» على الولايات المتحدة وفي أوروبا، صار هؤلاء الناس، وهذه البلاد، علما على الإرهاب، وعلى الظلامية الدينية والثقافية والإنسانية. وكان أصوليونا يجيبون عن ذلك بأن «الغرب عنيف، ويكيل بمكيالين، وقد يكون ضروريا لكي يكف عن الهيمنة والظلم أن نواجهه بالعنف لننتزع حقوقنا، ولكي نرغمه على الجلاء عن أرضنا». وقد استمرت الأقوال والأفعال المتبادلة على مدى عشر سنوات وأكثر، وإن كان العنف العشوائي من جانب المتطرفين لا يمكن مقارنته بالعنف المنظم من جانب الولايات المتحدة والغرب بشكل عام. وخلال ذلك العقد العاصف كان الأميركيون يسألون أنفسهم: «لماذا يكرهوننا؟»، ويجيبون بتلعثم «لأننا نغايرهم، ونحن أفضل منهم، ومتفوقون عليهم حريات وإبداعا وأخلاقا، ولأننا ورثة الحضارة اليهودية - المسيحية العظيمة»!.. وما خطر ببال أكثرهم أن لتلك الكراهية أسبابا معروفة في فلسطين وأفغانستان ووسط أوروبا والبلقان والهند وروسيا.. الخ. ولا خطر ببالهم أن هذه المنطقة، حتى وقت قريب، بل وأكثر ديار الإسلام، كانت محتلة من جانب المستعمرين الأوروبيين، وهي مليئة حتى اليوم بشواهد العنف والهيمنة اللذين لا يمتان للأخلاق وللدين بصلة!

وقد اعتقد كثيرون منا أن ذلك مضى وانقضى أو خف بذهاب بوش ومجيء أوباما - خاصة أن الرجل قضى شهورا يجول في العالم الإسلامي، ويخطب في تغيير العلاقة مع العرب والمسلمين للأفضل والأجمل. وما صدق كثيرون منا بحصول التغيير بسبب تصريحات أوباما وحسب؛ بل ولأن التطرف في الأكثر، الذي يخشاه الغرب، له أسبابه المعروفة في الظلم الواقع بالفلسطينيين والعراقيين والسودانيين والصوماليين.. الخ.. والاضطراب الذي يثيره ذلك إنما يتهدد الاستقرار، ويتهدد مصالح الغربيين أيضا، ويضطرهم لإرسال الجيوش الجرارة لحفظها. ولذا فقد صدّقنا بالفعل أنه في ضوء دروس العقد الماضي، التي كانت صعبة عليهم بالولايات المتحدة وأوروبا، وصعبة علينا أكثر؛ فإن مساعي كبيرة، وأعمالا جليلة، سوف تجري من أجل العدالة في فلسطين، ومن أجل إصلاح العلاقات مع إيران، وإعادة الهدوء والسيادة إلى العراق وأفغانستان والسودان والصومال! بيد أنه وبعد أكثر من عام ونصف من ولاية أوباما؛ فإن شيئا من ذلك لم يحصل. لقد قالوا فقط إنهم سينسحبون من العراق، أما بقية الملفات وبخاصة في فلسطين ومع إيران فإنها لا تزال مشتعلة. صحيح أن إيران ما أحسنت التعامل مع ملف العلائق هذا، لكن هذا الحصار الخانق، يذكر بحصار العراق. وإيران ما امتلكت شيئا بعد، بينما تملك إسرائيل مائتي رأس نووي. ولنتأمل كيف اصطف الجميع - بمن فيهم الروس والصينيون - مرة واحدة لفرض العقوبات، ثم اجتمع الأوروبيون وزادوها من جانبهم، كما زادتها الولايات المتحدة من فوق رأس مجلس الأمن. وقبل أيام تبرع الرئيس الروسي للولايات المتحدة من كيس إيران عندما قال إن إيران تزداد اقترابا من إنتاج سلاح دمار شامل. فأين هي معايير التكافؤ والتساوي، خاصة في العلاقات الدولية؟ وانظروا كيف احمرت العين على تركيا لأنها احتجت على مقتل مواطنيها الذين كانوا على السفينة «مرمرة»، ولأنها دعت إسرائيل إلى فك الحصار عن غزة! وبعد ستين عاما من العضوية في حلف الأطلسي، يشكك أهل السياسات الثقافية الإثنية من الغربيين الآن في موقف تركيا، وهي التي لا تزال تقاتل معهم في أفغانستان، ولا تزيد في طلباتها عن ستر جروح الوجه التي أصابتها في الصميم!

بيد أن غير الأخلاقي على الإطلاق هو ما يجري على أرض فلسطين. فلكي يرضي العرب الولايات المتحدة وافقوا على المفاوضات غير المباشرة لمدى أربعة أشهر؛ فإن حصل تقدم في موضوعَي الحدود (التي يريدها الفلسطينيون) والأمن (الذي كانت تريده إسرائيل)؛ فإنه يمكن الانتقال إلى المفاوضات المباشرة. بيد أن شيئا لم يحصل بسبب تعنت إسرائيل، وتصريحات مسؤوليها علنا بأنهم لا يريدون السلام الآن، مرة بسبب سلاح حزب الله، ومرة بسبب الانقسام الفلسطيني في كل المرات، لأنهم يريدون أرض الفلسطينيين للاستيطان والعيش عليها بالقوة!

كيف أجابت إدارة أوباما عن ذلك؟ لقد استجابت استجابة جيدة في البداية. إنما في الزيارة الأخيرة لنتنياهو إلى واشنطن، قيل إن الرجلين توافقا على كل شيء ما عدا الاستيطان، الذي يرى أوباما ضرورة وقفه، ويرى نتنياهو وليبرمان ضرورة استمراره. بيد أن هذا الاختلاف «الطفيف» ما أفسد للود قضية، وعلى العرب الاستمرار في التفاوض (المباشر هذه المرة)، في مقابل استمرار «الوقف الجزئي» للاستيطان خارج القدس، وتخفيف الحصار عن غزة! أين هو الحل الشامل، وأين هو حل الدولتين؟

لا أحد في الواقع تحدث عن خضوع إسرائيل للقرارات الدولية، وانسحابها من الأراضي التي تحتلها منذ عام 1967، إنما يتحدث الجميع عن العنف الفلسطيني، وعنف حزب الله، أما القيم الأخلاقية التي يريد أوباما أن تحكم العلاقة بين الولايات المتحدة والعرب فلا نجد لها أثرا لا في فلسطين ولا في غير فلسطين.

وما دامت الولايات المتحدة لا تريد الضغط على إسرائيل في أي شيء؛ فإن الأوروبيين يتبعونها، فيتمدحون بالديمقراطية الإسرائيلية، وحب الشعب لنتنياهو، وينصرفون عن فلسطين إلى إصدار القوانين المانعة للحجاب والنقاب وبناء المآذن في المساجد.. الخ!

ليس الأمر كما قال الشاعر الإنجليزي رديارد كبلنغ: «الشرق شرق، والغرب غرب، ولن يلتقيا»! بل إن قيمنا واحدة أو مشتركة، ولا مشكلة في الزمان أو الثقافة، وإنما المشكلة في هذه الهشاشة الأخلاقية التي تتميز بها القارتان القديمة والجديدة:

وإذا لم يكن من الموت بد

فمن العجز أن تموت جبانا