لكل زمان دولة.. وكفاءات

TT

العقل مثل الصحة والمال والبنين والعمر، كل منا له منه نصيب. والعقل له ابنة جميلة اسمها الفكرة، والفكرة تصنع العجائب، وألذ العجائب هي الثروات، فإذا أردتم أن تعرفوا كيف تصنع الفكرة الثروة في أبسط صورها فتأملوا مجال الإعلانات التجارية، حيث المسرح الذي تتراقص فيه الأفكار الرشيقة في أكثر أشكالها فتنة، لتصل حد الإبهار بما يعرف باسم الإبداع؛ الدرجة العليا من الأداء.

الإبداع هو القدرة على صنع الدهشة داخل مجتمع التفوق، أما الكفاءة فهي صنع الدهشة في حالة الاعتياد والروتين. والكفاءة ليس لها جنسية ولا عرق ولا لون ولا جنس ولا حتى فئة عمرية، لذلك أينما ذهبت الشخصية الكفؤة ذات العقل المنتج تطلعت الأنظار إليها طمعا فيها، وربما لحقوا بها، وتمسكوا بدثارها، أو حاكوها تمثلا بها. أصبحت الكفاءة تعرف بما تنتج وليس باسمها أو مرجعها وهويتها.

دخل الهنود على خط صناعة تقنية المعلومات، فشد أهل وادي السليكون في الولايات المتحدة رحالهم إلى الهند ليتقصوا أخبارهم. مؤسس سنغافورة الحديثة لي كوان يو، قلب المفاهيم بمنهجه الإداري، فصنع دولة حديثة متقدمة، أدهش بني جلدته وبني جلود الآخرين، والماليزيون سائرون على نفس الخطى، وكوريا الجنوبية تحولت من دولة متسولة إلى مكتفية بعرق جبين كفاءاتها. وكل قطاعات الأعمال تترصد الكفاءات، وأبرز هذه القطاعات هو الإعلام، وأذكر أنه خلال ملتقى أقامته قناة «العربية» قبل نحو أربع سنوات تحت عنوان: «تحديات العمل الإعلامي بين الجامعة والميدان»، كان نفر من الإعلاميين والأكاديميين وجها لوجها في مواجهة بدت مهذبة ومليئة بالابتسامات، إلا أنها لم تخف الاختلاف في وجهات النظر حول مدى مساهمة كليات الإعلام في تخريج الإعلاميين، ودور مؤسسات الإعلام في إعداد الخريج لسوق العمل الإعلامي.

تقدم أحد الإعلاميين المعروفين وذكر بأن كليات الإعلام فشلت فشلا ذريعا في تخريج الإعلاميين، فرد عليه أكاديمي رفيع بأنه إن كانت الكليات فشلت في تخريج إعلاميين فإن الإعلام العربي فاشل لأن القائمين عليه ممارسون وليسوا متخصصين. واستمر النقاش لساعات. وفي النهاية، وصل المتحاورون إلى نقطة التقاء بأن أوصوا بأن تضيف الكليات الجامعية الجانب التطبيقي إلى جانب الشق النظري في تدريس الإعلام، وفي المقابل تفتح مؤسسات الإعلام أبوابها لاحتضان الخريجين بالتدريب والممارسة. هذا ما يطلق عليه النهاية السعيدة..

قرأت وسمعت غير مرة من أسماء إعلامية كبيرة بأن لهم موقفا مضادا من كليات الإعلام وخاصة في دراستي الماجستير والدكتوراه، ليس بسبب ما ذكره المتحاورون في لقاء قناة «العربية» حول ضعف نظام تعليم الإعلام في الجامعات العربية، بل لقناعتهم بأن الشخصية الصحافية تعتمد على الموهبة التي قد تكون موجودة في الشخص أو غير موجودة، وإن وجدت فستصقلها الممارسة والتدريب، وإن لم تكن موجودة فلن تصنعها مقاعد الدراسة، حتى وإن كانت المقاعد أميركية أو أوروبية. باختصار، هم يرون شخصية الإعلامي كشخصية الشاعر أو الرسام، مهارة فطرية وليست مكتسبة، ويدللون على ذلك بما يعرف بالصحافي المتخصص، خريج الطب أو العلوم أو تقنية المعلومات الذي يحرر معلومات تخصصه في وسائل الإعلام.

هناك نماذج كثيرة تدعم هذا التوجه، أسماء كبيرة في فضاء الإعلام لم تدرس التخصص، وربما لم تحمل حتى شهادة جامعية ولكنها أبدعت في العمل الإذاعي أو الصحافي أو التلفزيوني. وكما أنه لم يكن من العدل ربط مشكلات الإعلام العربي بمنهجية كليات الإعلام، فمن غير المقبول كذلك ربط هذه المشكلات بالتخصص العلمي للقائمين عليه.

في رأيي أن ما يعاني منه الإعلام العربي هو ما تعانيه كل القطاعات الأخرى؛ وهو شح الكفاءات. والبحث عن الكفاءة أمر صعب، وصنعها أصعب، وقد تكون محظوظا إن دخلت مجلسا من مائة شخص والتقطت رجلا أو رجلين أكفاء للعمل. ولكنك قد تحصل منهم على 50 مرشحا للكفاءة إن اخترت أن تعمل بجد على صقل موهبة كل المائة، بالتدريب والممارسة المستمرة والمتقطعة، مع منح التقدير الشخصي الذي هو أكبر حافز، واتقاء المنغصات والعوائق، فبيئة العمل قد تكون نعيما تتحقق خلاله الأماني، أو جحيما تحترق فيه الأحلام.

صاحب المؤسسة يتطلع إلى الإنتاجية، ويبحث مستميتا عمن يوصله إلى هذا الهدف، من يملك القدرات الفردية والمهنية والمهارية لتحقيق معايير الجودة في الأداء. لذلك ليس بالضرورة كل من يحمل شهادة يكون في ذاته مطلبا لسوق العمل أو قادرا على المنافسة، وإن كانت شهادته عليا، إذ تظل كفاءة الفرد بمهارته في التفكير والتحليل وإدارة الأزمات والاستنباط وابتكار الحلول وقدرته على التواصل مع الآخرين، هي مفتاح النجاح، وتطويع هذه الأمور لخدمة العمل يظل شرطا دائما لنجاح المؤسسة.

وتذكروا، إن العالم نيوتن لم يحتج لاكتشاف الجاذبية الأرضية إلا إلى لحظة تفكير، وتفاحة..

* أكاديمية سعودية

- جامعة الملك سعود

[email protected]