السيد محمد حسين فضل الله وماراثون المرجعية

TT

كان السيد محمد حسين فضل الله حريصا على ألا تغيب النجف بسبب تشديد الحصار الأمني على حوزتها ومراجعها، أواسط التسعينات من القرن الماضي، عن موقعها المرجعي الذي لا يغني عنه أي فرع وإن أصبح بحكم المركز أو أقوى (قم مثلا).

ذلك لا يعني أنه لم يكن مرجعا قبل ذلك، فهو مجتهد مطلق باعتراف الجميع، أي متحقق فيه الشرط الأهم من شروط المرجعية العامة، التي تحتاج إلى قرار منه، يجب أن يكون دقيقا فيه لكي تتحول من القوة إلى الفعل، أو من الأهلية إلى المسؤولية.

كان السيد من تلاميذ السيد أبو القاسم الخوئي، وأحد وكلائه العامين، عندما عاد إلى لبنان مقيما عام 1966م.. وعندما توفي الخوئي (1994)، خلفه في المرجعية لدى مقلديه تلميذه المتقدم في العمر، السيد عبد الأعلى السبزواري، الذي اعتبره السيد فضل الله مرحلة انتقالية، وكان يحيل مراجعيه عليه في المسائل الاحتياطية، كما هو التقليد الفقهي. وتوفي السيد السبزواري مبكرا، فخلفه السيد علي السيستاني المحاصر لمدة أحد عشر عاما في منزله من قبل النظام الأمني العراقي، فاضطرب وضع الملتزمين الشيعة في المرجعية النجفية، في حين كان الآخرون يذهبون في تقليدهم تدريجيا إلى السيد روح الله الخميني الذي، قبل نجاح الثورة الإيرانية، كان عدد مقلديه في لبنان يعد على أصابع اليدين.. ثم أخذ عدد مقلديه يزداد ببطء في البداية، بسبب إشكالية حزب الله مع الجمهور الشيعي، قبل أن يتحول الحزب إلى سائد سياسي في الوسط الشيعي اللبناني، مما سهل عليه إلزام قواعده بتقليد الخميني، بعدما كان قد ترك لهم الحرية في اختيار مرجعهم.. وأصبحت إرادة الحزب في تحديد المرجع للمحازبين وغيرهم أقرب إلى الإلزام مع بداية مرجعية السيد علي خامنئي، الذي خلف الشيخ الآراكي الفقيه المعمِّر وغير القادر على إدارة الشأن العام الإيراني من موقع المرشد، إلى أن اختار مجلس خبراء الدستور السيد خامنئي لخلافة الخميني في المرجعية الفقهية وولاية الفقيه، بناء على شهادة قدمها الشيخ رفسنجاني، ومضمونها أن الإمام الخميني تحدث أمامه عن المستوى العلمي للسيد خامنئي، وعن أهليته للقيادة، فتم انتخابه بأصوات الأكثرية مرشدا ومرجعا، طبقا للدستور.

هنا كان من ذكاء السيد فضل الله ودقته أنه اختار الظرف المناسب لإعلان مرجعيته، في حال حصار النجف التام، وخلافة خامنئي للخميني، الذي لم يكن من السهل التصدي للمرجعية في حياته لأسباب تتصل بمستواه العلمي وموقعه القيادي التأسيسي، بحيث إن اختيار السيد خامنئي لم يسعفه في الخلافة التامة للخميني، بل اقتصرت، وبقناعة منه، هذه الخلافة على مساحة محدودة من الذين كانوا مقلدين للخميني داخل إيران، وقد انتبه لذلك، وصرح بأنه يطمح في أن تكون مرجعيته متجهة إلى خارج إيران، أي إلى أنصار الثورة والدولة من الشيعة في العالم. ولم تؤثر مرجعية السيد خامنئي على حضور المرجعيات الأخرى في قم، وهنا رأى السيد فضل الله أن مرجعية خامنئي ليس من شأنها أن تعوق قيامه بدور المرجعية؛ فتصدى لها من موقع يقينه بأعلميته، من دون أن يكون بإمكان غير المكابرين أن يصادروا عليه حقه وأهليته المعضدة بشهادة الكبار من أساتذته وزملائه وتلامذته الكثر.. إلى لياقات ثقافية تجعل مرجعيته محببة أكثر في نظر أكثرية الوسط الشيعي المنفتح على الآخرين، ثقافة وحياة، وخاصة في لبنان.

لقد كانت مرجعية السيد فضل الله تبدو، في عين الإيرانيين من الطبقة الحاكمة وأنصارهم في لبنان، كأنها انتقاص نوعي يضاف إلى تعقيدات مرجعية السيد خامنئي الإشكالية. وكيف بها إذا كانت آتية من لبنان، الذي أصبح في نظر كثيرين من رجال الدين والسياسيين الحزبيين محافظة من محافظات إيران، وأصبح الشيعة فيه وكأنهم جالية إيرانية في نظر هؤلاء؟

علما بأن السيد فضل الله لم يكن أقل تأييدا من غيره للثورة الإيرانية ودولتها ورجالها الذين كان على علاقة بأكثرية من مر بالحوزة النجفية منهم. وقد كان للسيد حضور في الوسط الإيراني في النجف، لا يقل عن حضوره في الوسط العربي واللبناني علميا وثقافيا واجتماعيا. إلى ذلك فإن مرجعية فضل الله لم تكن مفاجئة، فهو معروف منذ شبابه لدى أهل العلم والفكر والأدب في لبنان والعراق بأنه موهبة مميزة.

وفي لبنان اختار الوسط الأكثر فقرا من حزام البؤس حول بيروت.. أقام مسجده ومنزله وحوزته وإدارته لشؤون الفقراء وقاعة المناسبات التي استقدم إليها نخبة المفكرين من كل الأديان والألوان للشراكة في البحث عن خطاب معتدل.. أقام كل ذلك في النبعة بين الشيعة والسنة والأرمن، قريبا من الموارنة والأرثوذكس، واختار الوسطية، بما هي الأفضل والأعلى والأرحب، موقعا له بين النخبة والجمهور، بين الأستاذ والتلميذ، بين الجامعة والجامع، بين مشاغل الفقراء ومشكلاتهم، بين الأديان والمذاهب وأهلها. بين الشعر والعلم، بين المدينة والقرى النائية. بين المركز النجفي والطرف اللبناني بخصوصياته الغنية وعمومياته الضامنة. ونظم صلاته وكلامه وكتبه ودفاتره ودروسه فامتد صيته. والتزم الحكمة في الحرب، على الرغم من معاناته، إيثارا للوحدة والسلام الأهلي الآتي.. واقتصر في عمله على الضروريات.. ونهض مع نهوض السلم الأهلي ثانية.. وأثار غيض الكسالى وغيرة الناشطين. ولم ينسَ القضايا الكبرى من فلسطين إلى فلسطين. ومن طنجة إلى جاكرتا، عابرا حدود الكيانات، عائدا إليها.. عابرا حدود المذاهب، غير متنصل منها.

إنها مرجعية مختلفة.. توحيدية تقريبية وموثوقة في ذلك كله. مرجعية نقدية، تتناول بالنقد أي موقف عربي، ولا تدعو إلى الحقد على أي حاكم عربي موضع نقد.. ويفهم الحكام العرب ذلك، فيزدادون ثقة بها ورغبة في التواصل، ويشيحون عمن يوغرون الصدور عليه طمعا، ولو بالقليل، مختلفة عما كنا نراه من شروط المرجعية، وكنا ننقدها.. وفي آخر النقد نميل إلى الإعجاب بها.. كنا نقول إن المرجع ليس زعيما يوميا، وليس من شأنه الخطابة أو الأدب أو الإعلام أو الشعر أو الحوار أو البيان.. ولكنه خرق القاعدة، وألزمنا بهذا الخرق، وأثار فينا ميلا إلى اتباعه في ذلك.. فكان أن توفر لنا منه، وممن حذوا حذوه، كمّ وافر ونوعي من المقاربات الفكرية الحضارية والإنسانية، التي ترى في الدين ما لا يراه سكان الكهوف اللائذون بصمت العاجزين. لقد قتل الوقت بالعمل.. حتى كان يومه يبدو كأنه، من حيث سعته، شهر تام.

هذا البنيان.. كان استثنائيا، ولم يكن خارقا أو معجزا.. لأنه تحول من شخص إلى مؤسسات لا مؤسسة واحدة، تعمل في كل الحقول الإنسانية، ويوميا، وبشكل لا يُضاهى في التنظيم والدقة والإنتاجية والنمو. فكيف يمكن التهوين من شأنه، وكيف يمكن قبول هذه المرجعية في مفصل صعب، من الفراغ النجفي وقتها إلى الاندفاع الإيراني نحو حصرية المرجعية من منظور سياسي؟

إن وسطية السيد فضل الله دعته إلى تحرير المساحات المشتركة بين المسلمين، وإخلائها من الالتباسات الضارة، والدغل القاتل، والمعوق للتوحيد في تجليه بالوحدة.. فعاد إلى الذاكرة الشيعية ينقيها مما اعتبره زيادة أو ورما.. هادفا إلى تأسيس توجه إسلامي مشترك نحو المستقبل الصعب، بدلا من العودة التجزيئية إلى الماضي السهل.

وكان يمكن لذلك أن يمر بتعليق قاس أو مغرض وقبيح كما حصل، ولكنه تصدى للمرجعية!! فثارت الثائرة مدججة بكل وسائل الضغط، ومنها الأقلام التي اغترفت حبرها من دم السيد وحبره، لتخوض في السيد نكرانا وافتئاتا. ما ذكرنا بمظلومين.. ظلموا في حياتهم من بيت آبائهم.. وحلا لبعض ظالميهم أن ينصفوهم بعد وفاتهم، وبسبب وفاتهم فقط.

من الإمام محمد باقر الصدر إلى الإمام موسى الصدر والإمام محمد مهدي شمس الدين.. وغيرهم.. وغيرهم من علامات معاصرتنا وانفتاحنا على الآخر كشرط معرفي وروحي ووجودي.. فلماذا كان هذا الظلم الإضافي والنوعي على السيد فضل الله؟

تقديري أنه، على العكس من المشهور، فإن موقف السيد من ولاية الفقيه (الفقهي) لم يكن هو السبب فيما تعرض له من تعقيدات ومضايقات، لأنه، في الوقت الذي كان فيه حاضنا لبدايات المقاومة، ومؤسسا شريكا على الأقل، كانت له مكانته وتقديره لدى رهط ولاية الفقيه في لبنان وخارجه، وبعضهم كانوا من تلاميذه، ولم يكن يقول بالولاية المطلقة.. وهو، ونظرا لموقع المرجعية الحساس والمسؤول والوازن، بكر في رسم المسافة بينه وبين المشروع السياسي الحزبي الذي شارك في تأسيسه، من دون أن ينقطع عن حزب الدعوة، أو ينقطعوا عنه كجزء من ذاكرتهم ومعرفتهم.. بل إن جرأته على إعلان مرجعيته هي التي أدت إلى تصاعد الخلاف معه، وبلوغه حدودا تتعدى ما يمكن أن يترتب على مجرد الخلاف في رأي فقهي.. ومن المعروف أن مراجع حقيقيين في التاريخ الحديث قد حرموا من مرجعيتهم في حياتهم أو يوم مماتهم، وجُرِّدوا كما تجرد النخلة العتيقة من لحائها أو سعفها.

وبعد النجاح في وضع السدود والعوائق أمام اتساع مرجعيته الفقهية إلى الحد الذي لا يُحتمل، من دون قدرة على الحد منها في المجال الفكري العابر للحدود الوطنية والقومية والمذهبية، حصل نوع من التواصل التعويضي مع السيد، في حين كان قد أصبح أكثر جهرا باختياره الفقهي المؤصل للولاية المحدودة أو المقيدة للفقيه، وفي الأمور الحسبية حصرا، وأصبح موقعه من الرسوخ، بحيث تجرأ على الكتابة المنهجية في تفنيد كثير من الإضافات العقدية على المنظومة الشيعية، كالولاية التكوينية، التي بينما هي تريد أن تعزز مكانة أهل البيت، تنال من هذه المكانة في العمق. بالإضافة إلى شجاعته في نشر فتاوى وأحكام شرعية، كان العلماء المقتنعون بها سابقا يمتنعون أو يخافون من التصريح برأيهم فيها، خوفا من الغوغاء، ومن علماء الغوغاء.. أتذكر أنه، وفي مفصل ما في لبنان، قالت له إحدى الشخصيات الفاعلة: «إن آية الله فلان يقول غير ما تقول في هذه المسألة»، فقال: «ونحن آيات الله أيضا».. وقد روى محاوره بذاته هذه الرواية لي.. وهنا كان مكمن العلة.

* مفكر وكاتب لبناني