شهرام أميري: محاولة لجمع أجزاء اللغز المبعثرة

TT

وفجأة يظهر شخص في منتصف العمر على الشاشة الصغيرة في برامج الأخبار ليعلن أنه العالم النووي الإيراني الذي اختفى منذ عام تقريبا وأنه تمكن من الهرب في غفلة من حراسه من مكان احتجازه في المخابرات الأميركية الواقعة في غابة لانجلي بولاية فرجينيا، ثم ذهب مباشرة إلى السفارة الباكستانية المسؤولة عن المصالح الإيرانية في أميركا، كما أوضح أنه تعرض لعمليات تعذيب نفسية طوال مدة احتجازه. وعن ظروف اعتقاله أو اختطافه، قال إنه اختطف في المدينة المنورة بالمملكة العربية السعودية، حيث كان هناك لأداء العمرة - بعد ذلك بثلاثة أيام قال إنه اختطف في مدينة جدة - وإن مختطفيه حقنوه بحقنة مخدرة ونقلوه إلى أميركا.

لحسن الحظ أو لسوئه، عقلي مجهز برقائق لكشف الأكاذيب عن بعد، وهو جهاز ذاتي التشغيل؛ أي يعمل تلقائيا بغير إرادة مني أو قصد، أخذت أتأمل وجهه الناعم الرائق وقصة شعره الراقية، ثم وزنه الزائد من ذلك النوع الذي لا يتحقق إلا لهؤلاء الذين يعيشون لفترة طويلة في المنتجعات الصحية، أما قصة الشعر فلا بد أن حلاقه في المخابرات الأميركية كان برتبة كولونيل على الأقل.

من المستحيل أن يكون هذا الرجل عالما في أي فرع من فروع العلم، فلا صوته ولا إيقاعاته في الكلام ولا نظرات عينيه فيها ذلك الهم الذي نلمحه على الفور في أعين العلماء. الأكاذيب في حد ذاتها لا تشعرني بالقلق، ولكن عدم تصديقها يضعني في حالة كرب شديد، أنا واثق بالحدس والعيان المباشر من أنه ليس عالما بحال من الأحوال، ولكن لا دليل لدي على ذلك. وهذا هو ما يزعجني بشدة، كما أنني واثق من أنه لم يتعرض لتعذيب نفسي من أي نوع، فما هي حكايته.. وما هي حقيقته؟ أو على الأقل ما هو الدور الذي لعبه أو يلعبه؟

الأفكار المتشابهة في معظم الأحيان تنتج أشكالا أو ملامح معينة. هذا الرجل يعمل في جهاز أمني، في الغالب هو عضو في الحرس الثوري الإيراني، وهو صاحب رتبة عالية تكفل له درجة عليا من التنعم، وهو منخفض الذكاء بوجه عام ولا يصلح إلا لأداء المهام التي تتطلب عنفا لا رحمة فيه. ولكن ماذا كانت المهمة التي كلف بها؟

ولحسن حظي تولى هو إنقاذي من حيرتي، بعد أن جمع بشكل صحيح عددا من أجزاء اللغز. وذلك عندما صرح في طهران أنه لم ينقل أسرارا نووية إلى أميركا لأنه ليس عالما نوويا أصلا، وهو مجرد باحث فيزيائي في الجامعة، وبذلك يكون أول باحث على وجه الأرض لا يعلن اسم الجامعة التي يعمل بها. واستكمالا لرسم صورة البطل، قال إن أميركا عرضت عليه مبلغ عشرة ملايين دولار لكي يظهر في محطة الـ«سي إن إن» لمدة عشر دقائق، ولكنه رفض، كما رفض أيضا عرضا بخمسين مليون دولار ويعيش هو وأهله في أميركا مقابل أن يدين بلاده ولكنه رفض.

نعود لمحاولة جمع أجزاء اللغز، أمران فقط مؤكدان وواضحان في هذه الحكاية، أن شهرام كان فعلا في أميركا وأنه غادرها بالتأكيد، ومما يلفت النظر، أن الحكومة الأميركية، على لسان وزيرة خارجيتها، علقت على الحكاية بأكثر الكلمات اقتضابا في التاريخ «كان هنا بإرادته وغادر أميركا بإرادته».

الآن نقترب من حل اللغز. لقد اختفى في السعودية بالفعل في شهر يونيو (حزيران) 2009، ولم تعلن إيران عن اختفائه إلا في شهر أكتوبر (تشرين الأول)، وفي شهر مارس (آذار) قالت أميركا إنه منشق ومتعاون. وهنا نلجأ للخيال الدرامي لوضع الأجزاء الأخيرة من اللغز. في عملية كلاسيكية تعرفها جيدا أجهزة المخابرات العالمية، قررت إيران اختراق المخابرات الأميركية لكي تدس إليها معلومات زائفة بأمل أن تتعامل معها بوصفها حقائق واقعية، وبذلك ترتكب حماقات يمكن أن تسبب لها فضيحة كبرى. هذا هو ما حدث بالضبط بواسطة الأجهزة العراقية قبل غزو العراق بعد أن أرسلوا بمنشقين يؤكدون للمخابرات الأميركية أن صدام حسين يحتفظ بمعامل لإنتاج أسلحة دمار شامل كيماوية، وأنه من الصعب رصدها لأنها محملة على سيارات نقل عملاقة يمكن إخفاؤها في الشوارع الجانبية. هذا ما أعلنه كولن باول قبل الحرب بشكل استعراضي في الجمعية العامة للأمم المتحدة، مستعينا بشاشة عرض كبيرة وأنبوبة ممتلئة ببودرة بيضاء تمثل مادة الأنثراكس الفتاكة، وكان الثمن الغالي الذي دفعه هو خسرانه لمستقبله السياسي، على الرغم من عدم مسؤوليته الشخصية عن صحة هذه المعلومات.

أعود لشهرام، لقد دخل السفارة الأميركية في السعودية، وطلب مقابلة مسؤول كبير، وعندما قابله قال له أنا شهرام أميري، أحد المسؤولين عن أمن المفاعلات الذرية في إيران.. ولدي من الأسباب ما يدفعني لطلب اللجوء إلى أميركا.

في نفس الليلة تم شحنه إلى أميركا، ليقضي ليلته في أحد المنتجعات لكي يتم التحقيق معه في الصباح، وفي الصباح جاءت طائرة هليكوبتر ونزلت منها ضابطة شابة تتكلم اللغة الفارسية، صافحته بحرارة وأعربت عن سعادتها بوجوده في أميركا. نزل من الطائرة أمام مبنى المخابرات الأميركية حيث قادته الضابطة إلى رئيس قسم إيران الذي رحب به بالفارسية وطلب له شايا وكعكا، ثم قال له: اسمع يا شهرام.. نحن نعرف كل شيء عن حضرتك.. أنت تسكن في العنوان الفلاني، ووصلت في التعليم إلى درجة كذا، وليس لك صلة لا بالذرة ولا المفاعلات الذرية، ورئيسك هو فلان الفلاني وزوجتك هي فلانة وابنك اسمه فلان، ولقد أرسلوك في مهمة تفاصيلها كذا وكذا.. طبعا ستسألني، وكيف عرفتم كل ذلك.. طبعا لن أقول لك.. أنا أقول لك كل ذلك لكي لا تضيع وقتك ووقتي.. المطلوب منك أن تتعاون معنا بإخلاص، وأنا أقسم لك بشرفي أنه لن يحدث لك أي مكروه.

بعد هذا اللقاء بدقيقة واحدة أبلغت المخابرات الأميركية المسؤولين في المخابرات الإيرانية عن طريق طرف ثالث بأن الرجل الذي أرسلوه في الحفظ والصون. وهنا عجزت طهران عن الحديث عن الموضوع لدرجة أنه مر شهران قبل أن تعلن أن عالما إيرانيا ذريا تم اختطافه في السعودية، ولو أنها كانت على يقين من ذلك لأقامت الدنيا كلها ضد السعودية، وهو الأمر الذي لم يحدث. سكت الطرفان، واشنطن وطهران، الأولى لكي تحصل على أكبر ثمن في هذه الصفقة، والثانية لكي تقلل خسائرها لأدني حد. لم يختطف الرجل، وليس عالما، ولم يهرب من مكان احتجازه. كان بالفعل في أميركا بإرادته وغادرها بإرادته.

غير أنه من المهم أن أذكرك، أن ما قلته لك، هو مجرد خيال استعنت به لفهم واقع غطته كل الأطراف المعنية بالأكاذيب. هل لديك وسيلة أخرى لجمع أجزاء هذا اللغز المبعثرة؟