العصابة الطيبة

TT

أثناء سكني في أحد الفنادق تعرفت على شاب مع زوجته يسكنان في الفندق نفسه، كنت ألتقيهما كل صباح في قاعة الطعام، ونتبادل الصباحات والابتسامات، والحق أنهما على درجة عالية من الثقافة والأخلاق وحب الحياة، وبما أنني لا أقل عنهما في الميزة الثالثة، فقد بدأ الانجذاب بيني وبينهما، وابتدأنا نلتقي بالمساء في صالة الفندق، وأحيانا نتسكع في الشوارع أو نجلس على رصيف أحد المقاهي، أو نذهب معا إلى أحد المتاحف.

الواقع أنه نشأ بيننا ما يشبه الصداقة، وزاد من حماسي لصداقتهما أنهما كانا كريمين بشكل لافت، فقلما تركاني أدفع عنهما الحساب.

وعرفت منهما أنهما يؤمنان بـ(الحسنات العفوية) - على حد قولهما - بمعنى أن تفعل أفعالا جميلة حتى لو أن البعض يعتبرونها حمقاء، فلم أفهم في البداية أهداف هذه الفلسفة الغريبة، فقالت لي الزوجة موضحة: «إن اللطف يتغذى من ذاته، مثله مثل العنف تماما».

ازدادت حيرتي بتفسير ذلك، وظهر الامتعاض على ملامحي، فابتسم الزوج في وجهي قائلا: «إننا ننتمي إلى ما يسمى بـ(العصابة الطيبة)، هل تريد أن تنضم إلى عصابتنا؟!»، قلت له: «ليه لا؟ لكنني أريد أن أعرف أهدافها، لأنني أخشى أن تقودني إلى كهوف (تورا بورا)». ازدادت ضحكاته وقال لي وهو يطمئنني إنها باختصار على سبيل المثال: كأن يضع عابر سبيل قطعة نقود في عدّاد موقف للسيارات، فيخلّص صاحب السيارة الموقفة من محضر مخالفة. وقد يتوجه جمع من الأشخاص بالدلاء والمماسح إلى منزل قديم فينظفونه ويرتبونه على مرأى أصحابه المسنين الذين تتملكهم الدهشة. وقد تعتمل النخوة في سيدة تكنس فناء بيتها فتعمد إلى كنس فناء جارتها أيضا.

وتتفشى الأعمال الصالحة العفوية، فنرى رجلا يبذر النرجس على طول الطريق، ومجهولا يجوب الطرق جامعا النفايات في عربة، وتلميذا يمحو الكتابات عن مقاعد الحديقة العامة. هذه علامات فوضى إيجابية وفتنة لطيفة وشغب ناعم.

يقال إن المرء لا يسعه أن يبتسم من دون أن تروّح الابتسامة عن نفسه. لكن لا يسعه كذلك أن يأتي عملا لطيفا وعفويا من دون أن يشعر بأن مشكلاته الخاصة خفّت لأن العالم صار أفضل قليلا مما كان.

الحقيقة أنهما أسراني وغسلا دماغي بالانضمام لتلك العصابة الخلاقة.

وبعد أن افترقت عنهما بأيام قررت أن أطبق هذا السلوك عمليا، وبينما كنت أقف بسيارتي عند بوابة رسم العبور في طريق (الهاي واي)، دفعت للموظفة رسم عبوري، ودفعت أيضا رسم عبور السيارة التي خلفي من دون أن أعرف صاحبها على مبدأ (اعمل المعروف وارميه في البحر)، وانطلقت وأنا أتنفس الصعداء بحبور بالغ.

وما إن قطعت أكثر من ثلاثين كيلومترا تقريبا وخرجت من الطريق السريع، إذا بسيارة تتعقبني وتتجاوزني ويرغمني سائقها على التوقف، وينزل منها وهو (يرغي ويزبد)، ويقول لي ما معناه: «من فين أنا أعرفك وأنت تعرفني حتى تدفع عني؟!.. هل أنا طلبتك.. هل أنا شحذتك؟!».

كان يتكلم بهياج شديد، وأنا أقابل كلامه بابتسامة وادعة.

ثم لف حول سيارتي وكتب رقم لوحتها على أمل أن يقدم شكوى ضدي.

فهل هناك من يريد أن ينضم معي لتلك العصابة؟!

[email protected]