فرنسا والخليج.. أو التداوي بالتي كانت هي الداء

TT

منذ عقود متتالية من الزمن، وخصوصا في حقبة الرئيس نيكولا ساركوزي، تعمل فرنسا جاهدة على امتلاك موطئ قدم لها في منطقة الخليج العربي بالغ الأهمية من جهة المصالح والتوازنات الدولية، سواء على الصعيد العسكري وتجارة السلاح أو على صعيد الأسواق والاستثمارات، أو في مجالي الثقافة والتعليم. ففي شهر مايو (أيار) من السنة الماضية افتتحت فرنسا أول قاعدة عسكرية لها في الإمارات العربية المتحدة على مقربة من مضيق هرمز، وبموازاة ذلك تم التوقيع على اتفاقيات في مجالات الدفاع والأمن، والطاقة الذرية السلمية، والثقافة والتعليم.

لم تقتصر هذه العلاقة على دولة الإمارات فحسب، بل إن باريس بصدد توسيع نفوذها وأسواقها في قطر والبحرين وسلطنة عمان وغيرها، وهي حريصة على مد الجسور أكثر مع المملكة العربية السعودية الأكثر ثقلا وتأثيرا في الفضاء الخليجي، لتدارك ما فاتها من حضور في هذه الرقعة من العالم، حرمت منه طويلا لصالح بريطانيا ووريثها الأميركي لاحقا.

وبما أن فرنسا تعتبر عاملي اللغة والثقافة، أهم ضمانة لحماية مصالحها وتثبيت نفوذها في أي رقعة من العالم، فقد وضعت على رأس أولوياتها فتح فروع لجامعاتها في دول الخليج، وعقد شراكات مع جامعات محلية، جنبا إلى جنب مع توسيع المراكز الثقافية الفرنسية وفتح أخرى جديدة. ورغم أن الطموح الفرنسي لا يرقى إلى حد أن تحل الفرنسية في هذه الرقعة من العالم محل اللغة الإنجليزية الأكثر رواجا ورجحانا، فإنه مع ذلك لم يقطع عندها الأمل في تسجيل اختراقات في الفضاء الخليجي بصورة مزاحمة للغة العربية والإنجليزية. لقد ظل الفرنسيون دوما ينظرون إلى لغتهم باعتبارها حاملة المشروع الفرنسي في الخارج، والرافعة الرئيسية لحماية موقعهم في المعادلة الدولية المتحركة، وضمن هذا السياق نفهم الحرص الفرنسي الشديد على اجتذاب بعض الدول العربية واستمالتها مجددا للرابطة الفرنكفونية، بما في ذلك تلك التي ليس لها صلة أصلا بهذه الرابطة من قريب أو بعيد. بل إن عودة فرنسا إلى سورية بعد طول جفوة ليس بعيدا عن الرغبة في استعادة قدر من الحضور الثقافي الفرنسي في بلاد الشام، والمشرق العربي عامة. لقد ظل الهاجس الأعظم عند الساسة الفرنسيين هو حماية اللغة الفرنسية وتثبيت مواقعها على الأقل في مواجهة الزحف الأنجلوسكسوني.

من الواضح أن ثمة رغبة فرنسية جامحة في دخول الخليج، وهذه الرغبة في الحقيقة ليست وليدة البارحة، بل لها جذور ضاربة في التاريخ الحديث. لقد كان من بين أهداف الحملة الفرنسية على مصر مثلا، سنة 1798 استباق التمدد البريطاني نحو الشرق ومنه نحو الهند، بيد أن البريطانيين ردوا على ذلك بخطة شاملة عبر توسيع انتشارهم العسكري والتجاري في عمان ومسقط وإيران، ومن ثم محاصرة الفرنسيين وإبعادهم عن هذا الفضاء الجغرافي الحيوي، الذي ازدادت أهميته مع اكتشاف النفط بدايات القرن الماضي، الأمر الذي اضطر الفرنسيين إلى التوجه نحو المغرب العربي وأفريقيا السمراء.

يحاول الفرنسيون اليوم تحت غطاء «الشراكة الأميركية الفرنسية»، وبعد عودة باريس مجددا إلى المظلة الأطلسية، وفي أجواء تزايد الهواجس الخليجية من ظهور إيران نووية، أن يعززوا حضورهم في المياه واليابسة الخليجية عبر بوابة الأمن والاقتصاد والثقافة. ورغم أن الأميركيين وأقرانهم الإنجليز لا ينظرون إلى هذا التمدد بعين الرضا فإنهم مع ذلك يقبلون الأمر على مضض، استرضاء للفرنسيين مقابل ضمان تعاونهم في قضايا أخرى ذات أولوية لديهم في المرحلة الراهنة، خاصة بعد ورطتي العراق وأفغانستان.

وعلى الجهة المقابلة هناك رغبة خليجية واضحة في فسح المجال أمام الفرنسيين وتوسيع نطاق التعاون العسكري والأمني والثقافي معهم بغية تحقيق قدر من التوازن المفقود في هذه المنطقة التي تستهوي الكثير من القوى الدولية التي أرهقتها سلسلة الحروب التي لا تنتهي.

يهمنا هنا التنبيه إلى جملة من الحقائق التي قد تغيب في زحمة المجاملات الدبلوماسية ولغة الثناء والإطراء السياسيين من الطرف الفرنسي أو العربي على السواء.

أولا: إن فرنسا، وبغض النظر عن موقفنا منها سلبا أو إيجابا، تظل في نهاية المطاف بلدا متوسط الحجم والقدرات في أحسن الأحوال، حتى مقارنة بدول أخرى صاعدة مثل الهند والبرازيل والصين، أو مثل روسيا العائدة بقوة إلى الساحة الدولية، وربما حتى مقارنة ببلد نشيط مثل تركيا المجاورة. الحقيقة المرة التي لا يريد أن يسمعها الفرنسيون، هي أن بلدهم يشهد تراجعا ملموسا في موقعه الدولي وحضوره اللغوي والثقافي على امتداد العقود الثلاثة الأخيرة على الأقل، لصالح التمدد الأميركي الأنجلوسكسوني، وليس بمقدور «فهلوة» ساركوزي، أو مشاعر الامتلاء القومي الفرنسي التغطية على هذا الأمر.

ثانيا: إن فرنسا اليوم لم تعد تمتلك مساحة تمايز يذكر عن الموقف الأميركي الأطلسي في مجمل الملفات الدولية الكبرى، وما عادت راغبة أصلا في انتهاج سياسة مستقلة سواء في الخليج أو في غيره، خاصة بعدما أعاد ساركوزي باريس إلى الحاضنة الأطلسية، وذلك في خروج واضح عن تقاليد الديغولية القائمة على نهج سياسة دفاعية وخارجية مستقلة عن واشنطن. لقد أصبح أكثر ما يتمناه ساركوزي منافسة الأقران البريطانيين على كسب عقل وقلب الراعي الأميركي. بل إن تجربة السنوات الماضية بينت أن باريس تتناغم في نهاية المطاف، مع الموقف الأميركي سواء فيما يتعلق بملف الصراع العربي الإسرائيلي أو مجمل ملفات المنطقة الأخرى، من لبنان وغزة والعراق وإيران وأفغانستان وغيرها. الحقيقة أن فرنسا ساركوزي اليوم ليست فرنسا ميتران أو شيراك، بله الحديث عن شارل ديغول، وعليه فمن الخطأ التعويل كثيرا على فرنسا القلقة والمأزومة أصلا، في إحداث توازن ما في الساحة الدولية، فضلا عن مناصرة القضايا العربية، في ظل غياب سياسة فرنسية مستقلة تجاه العالم العربي.

ثالثا: إن أخطر ما في الدور الفرنسي وجهه الثقافي واللغوي الناعم، إذ لا ينظر الفرنسيون إلى لغتهم على أنها مجرد لغة «براغماتية» لإدارة الأعمال والتجارة أو حتى البحث العلمي، بقدر ما يرون فيها مدخلا لإعادة تشكيل هويات الأمم والشعوب، عبر استخدام نظام التعليم والثقافة المشبعين بما يسمونه بالقيم الجمهورية واللائكية (العلمانية) الفرنسية.

يعتبر الفرنسيون، كما هو شأنهم دوما، اللغة والثقافة الفرنسيتين البوابة الرئيسية لتعظيم النفوذ السياسي والاقتصادي، ولذلك يعملون جاهدين على تمديد هذه «السلطة الناعمة» في مناطق جديدة، في وقت تشهد فيه اللغة الفرنسية انحسارا مريعا في مواطنها التقليدية لصالح اللغة الإنجليزية المتمددة. لقد غدا أمرا مألوفا ومعروفا، أن من بين أولى الخطوات التي يخطوها الفرنسيون، في أي أرض يمتلكون فيها قدرا من الحضور، محاولة صنع نخبة جديدة معبأة بالرؤية اللائكية الفرنسية، هي أشبه ما يكون بزرع مستوطنات ثقافية في المواقع الخارجية. هذا ما يفسر الاهتمام الخاص الذي يوليه ساسة فرنسا لقضية اللغة والثقافة في مجال السياسة الخارجية، مثلما يفسر الموقع الخاص الذي يحتله نظام التعليم والثقافة على الصعيد الداخلي بما لا نظير له في أمم أخرى بما في ذلك أقرانهم الأوروبيون. فالمدرسة بالنسبة للفرنسيين مثلا ليست مجرد مؤسسة للتعليم والترشيد، بل هي منتجة ما سماه فردينون بويسون باللائكي الصغير.

لا شك أن مثل هذا التوجه العقائدي للثقافة واللغة، يهدد على نحو أو آخر النسيج المجتمعي والثقافي الخليجي الذي يتسم في صورته العامة بالانسجام والاستقرار. لقد نجحت دول الخليج، بدرجات متفاوتة، في خط طريقها الخاص في التحديث الاقتصادي والاجتماعي في إطار من المزاوجة الهادئة بين الوافد الخارجي والموروث المحلي ومن دون توترات ثقافية واجتماعية، وهذا ما برأها من قلاقل ومنغصات عانتها دول عربية أخرى، استهواها النموذج الحداثي الفرنسي الجامح. هذا ما يفسر كون النخبة الفكرية والسياسية الخليجية لم تنقطع جسور التواصل فيما بينها فضلا عن تفاهمها مع المحيط الشعبي العام، ويكفي الواحد أن يشهد أيا من المجالس التي تجمع نخبا فكرية متنوعة حتى يقف عند هذه الحقيقة جيدا. الأرجح هنا أن الطالب الخليجي الذي يرغب الفرنسيون في اجتذابه إلى تعليمهم ودخول جامعاتهم لن يكون في نهاية المطاف إلا عامل توتير للساحة الثقافية والاجتماعية الخليجية، من خلال إثارة معارك وسجالات «فرنسية» لا علاقة لها بالمنطقة وأولوياتها. ليس من قبيل المبالغة أو التجني القول - بشيء من المقارنة - إن أكثر الدول العربية استقطابا اجتماعيا وتوترا سياسيا هي تلك التي خضعت للاحتلال الفرنسي، وهذا المعطى في حد ذاته جدير بالنظر والاعتبار.

صحيح أن الخليج العربي يشهد تحولات ملموسة تطال أنماط الاجتماع والثقافة وما استقر من أعراف مديدة، وبعض هذه التغييرات محمودة وتمليها دواعي العصر ووتيرة الحياة، وبعضها الآخر يجب الاحتراز منها وتجنب آفاتها، ولكن ما هو مؤكد هنا أن النهج الفرنسي هو آخر ما يجب أن يفكر فيه الخليجيون. المشكلة الكبرى أن الفرنسيين يريدون أن يأخذوا كل شيء، من الأسواق إلى البترول والغاز، ومن تدفق رؤوس الأموال العربية إلى التعليم والثقافة ولكن دون شعور بالحاجة إلى أن يغيروا شيئا من جهتهم، سوى بعض المجاملات الدبلوماسية لا أكثر.

* كاتب وباحث تونسي في الفكر السياسي والعلاقات الدولية