خطاب نصر الله.. وتداعياته المحتملة

TT

«الذين يقفون أمام المقاومة في لبنان يراهنون على مشروع إسرائيلي آخر اسمه المحكمة الدولية»

(السيد حسن نصر الله)

من دون مبالغة.. يطرح خطاب السيد حسن نصر الله الأمين العام لحزب الله اللبناني علامات استفهام حقيقية على مستقبل لبنان والمشرق العربي.

صحيح أن بعض ما ورد فيه ليس جديدا تماما، وأنه وعد بقول أشياء أخرى في خطب تالية تكون أقل تلميحا وأكثر تصريحا وتوضيحا، وأنه عندما «ضرب ضربته» في قضايا حساسة مثل «العمالة لإسرائيل» اختار لهجة دبلوماسية تبدو كأنها تمنح خط رجعة أو توبة لـ«العملاء» عبر تحاشي اتهامهم مباشرة أو توجيه أصابع الاتهام - في هذه المرحلة على الأقل - إلى من ورطهم ومن وصفهم بـ«المشغل الإسرائيلي».

كل هذا صحيح، وجزء غير قليل من مضمون الخطاب نفسه صحيح أيضا، لكن الأمين العام لم يوفق في استخدامه كلمة «أصبح» في سياق كلامه عن أن لبنان «أصبح» مكشوفا للاستخبارات الإسرائيلية.

فلبنان لأنه إحدى الدول القليلة في المنطقة التي تمتعت بحد معقول من الحريات والانفتاح كان منذ إنشائه عام 1920 مسرحا للنشاطات الاستخباراتية والاستخباراتية المضادة. فخلال عقد الثلاثينات من القرن الـ20 تواجهت فيه أجهزة الاستخبارات الفرنسية والبريطانية. وبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية صار محطة مهمة جدا لوكالة الاستخبارات المركزية الأميركية أمام عدوتها السوفياتية، ومن لبنان فر الجاسوس البريطاني الشهير كيم فيلبي إلى موسكو. ووسط أجواء «الحرب الباردة» و«حلف بغداد» و«الحقبة الناصرية» برز دور الاستخبارات المصرية فكشفت شبكات خطيرة للاستخبارات الإسرائيلية، منها شبكة شولا كوهين. وتطور النشاط الاستخباراتي الإسرائيلي والأجنبي والعربي داخل لبنان بعدما صار لبنان منطلقا للنشاط الفدائي الفلسطيني، وصولا إلى الحرب الأهلية اللبنانية، وبعدها كما نعرف تكثف الحضور الاستخباراتي السوري من دون إلغاء لأدوار الأجهزة الأخرى.

القصد هنا أن لعبة الاستخبارات بما فيها الاستخبارات الإسرائيلية في لبنان لم «تصبح» كما هي عليه اليوم فجأة، وحتما ليس منذ عقد التسعينات من القرن الماضي، وهو العقد الذي شهد فيه لبنان التطبيق الجزئي لاتفاق الطائف، وبرز دور حزب الله كقوة مسلحة وحيدة خارج سلطة الدولة وموازية لها تحت اسم «المقاومة»، وتصاعد دور إيران الإقليمي.

اليوم يتزامن الانكشاف بل الانهيار اللافت لشبكات عملاء إسرائيل مع تطورين أساسيين على الساحة اللبنانية هما: أولا: وضع حزب الله يده عمليا على ملف الاتصالات عبر «حلفائه» السياسيين الذين تسلموا هذا الملف بضغط من «الحزب». وثانيا: التماهي الكامل بين المواقف المعلنة لـ«الحزب» والسلطة السياسية والعسكرية اللبنانية إزاء «ثلاثية» الشعب والجيش والمقاومة بعد أحداث مايو (أيار) 2008. ولهذا فعندما يتكلم «الحزب» عن الرئاسة أو الجيش واستخباراته فإنه يتكلم بلسان «جبهة واحدة».. وهذا أمر قرأه بعض المتابعين من موقف الوزراء المحسوبين على رئيس الجمهورية في مسألة تصويت لبنان في مجلس الأمن الدولي بشأن العقوبات على إيران.

لا شك أن كشف أي «عميل إسرائيلي» في لبنان خطوة ضرورية ومطلوبة لتنقية الجبهة الداخلية في البلد وإضعاف المؤامرة الكبرى التي تحاصر لبنان والمنطقة العربية، غير أن ما يقلق جزءا من اللبنانيين ليس افتضاح أمر هؤلاء «العملاء».. بل سلامة الوضعين الأمني والسياسي في لبنان.

فهل ينشط في لبنان اليوم حقا جهاز استخبارات قوي وفعال لدرجة نجاحه في كشف ما لم يكن يكشفه من قبل من عملاء؟ وما هي هوية هذا الجهاز؟ وهل عاد لبنان مجددا حلبة لاستقطاب استخباراتي إقليمي مباشر؟

أما على الصعيد السياسي فهل تم اختصار التنوع السياسي بين مختلف الفرقاء في لبنان إلى مجابهة بين «أعداء» إسرائيل و«عملائها».. حصرا؟ وهل غدت علاقة لبنان بالمجتمع الدولي ومؤسساته موضع شبهة ورفض، بصرف النظر عن موقع واشنطن المهيمن؟ وهل حسم نهائيا أمر الفلك الوحيد المسموح للبنان بالسير فيه، وتاليا للمنطقة ككل؟

المواقف التي أعلنها السيد نصر الله بالأمس، وأيضا تلك التي كتمها ووعد بإعلانها لاحقا، وتحديدا حيال المحكمة الدولية باعتبارها «مشروعا إسرائيليا».. هي مواقف قد تكون لها تبعات وتداعيات خطيرة. وهي - ما لم يكن لإسرائيل (نتنياهو وليبرمان) خيارات مضمرة - ستستفز آلة الحرب الإسرائيلية ومن خلفها «اللوبي» المرتبط بها في واشنطن، لمحاولة تغيير خريطة المنطقة.