مانديلا.. الأسطورة الحية

TT

يحتفل العالم هذه الأيام بمرور اثنين وتسعين عاما على ولادة رجل عظيم.. رجل يعتبره الكثيرون أعظم شخصية معاصرة اليوم، وأعني هنا تحديدا الزعيم الأفريقي الكبير نيلسون مانديلا.

هذا الرجل بهر وسحر العالم بحكمته وسماحته، وقدرته على تجاوز همه ومحنته وغصته الشخصية، ومأساة البلاد التي هو منها عموما لتخطي كل ذلك نحو المسامحة والصفح، والانتقال إلى المشاركة الوطنية.

تسعة وعشرون عاما قضاها نيلسون مانديلا في زنزانته منفردا يواجه بحار المحيط، ويفكر ويتأمل ويراجع نفسه ويحلم بالغد، كل ذلك الوقت مضى وقامة مانديلا تكبر داخل زنزانته ليخرج منها حرا وبطلا وزعيما يتسارع أبناء بلاده وزعامات أفريقيا وحكماء العالم للتقرب منه حتى وصل إلى سدة الحكم، وترأس بلاده بشكل سلس وراق لم ترق فيه قطرة دم، أو سمح بها في لحظة غضب.

توصل إلى فكرة عبقرية لمواجهة شياطين وكوابيس وأشباح الماضي القبيح المليء بالتجاوزات العنصرية المقيتة والظلمات الاجتماعية والمظالم السياسية، واستحدث لجنة الغرض منها أن يقر المخطئ بخطئه ويبدي الندم فيتم الصفح عنه وإغلاق المطالب بحقه، ورضي الجاني والمجني عليه بهذا الحل العبقري، وتحقق السلم والتوازن الاجتماعي الدقيق في بلد كان معدا للانفجار والحرب الأهلية الفتاكة المدمرة.

وكانت فترة حكم نيلسون مانديلا فترة استقرار وبناء ثقة على المستوى الداخلي في بلاده والقاري باعتبار جنوب أفريقيا هي البلد صاحب الاقتصاد الأهم والأكبر تأثيرا بالقارة، وطبعا الشيء ذاته على المستوى الدولي، فلم يتم اتباع أي سياسات موتورة أو انتقامية مثل تأميم الشركات والمنشآت ومصادرة الممتلكات أو طرد الشخصيات أو قطع العلاقات أو غير ذلك من الخطوات الغبية والانفعالية، فهو تمكن من زيادة حجم الثقة في بلاده وزيادة الاستثمارات فيها وجلب مبالغ ضخمة من الممولين الدوليين الذين كانوا لا يتعاملون مباشرة مع جنوب أفريقيا سابقا بسبب المقاطعة التي كانت مفروضة على نظام الأبرتايد العنصري فيها.

وتمكن وبكل حكمة من نقل السلطة لخليفته بشكل ديمقراطي خال من المشكلات، مكرسا الحياة الحزبية المسؤولة والإعلام الحر والقضاء المستقل.

وبكل هذه الخطوات الهائلة كان يحدث حرجا مهولا لدى حكام القارة الأفريقية التي كانت تعرف دوما بالفساد والاستبداد والتسلط والحروب الأهلية، فبدأ الحديث وبقوة عن الحكم الرشيد وأهمية الاعتناء به وتشجيعه، وهو ما بدأ يحدث في أكثر من دولة أفريقية أخرى وإن كان بهدوء، كل ذلك بسبب «أثر مانديلا» كما بات يطلق عليه ويسمى.

نيلسون مانديلا شخصية آسرة وذات حضور طاغ وجذاب، له حس إنساني ساحر، وأذكر كيف كان يتحدث معي في مناسبة جمعتني به ولاحظت أسلوبه الخالي من التصنع ولكن المليء بالعمق والتلقائية والحكمة، إنها عظمة البسطاء وقدرة الكبار.

كان متأثرا بعظيم آخر، وهو الزعيم الهندي المهاتما غاندي الذي نشأ في جنوب أفريقيا مناهضا للفكر والحكم العنصري وانتقل بعد ذلك للهند ليقاوم ويواجه بريطانيا العظمى بشكل أشبه بالمعجزة والأسطورة والخيال.

نيلسون مانديلا تحول إلى أيقونة سلام ورجل حكيم يلجأ إليه الناس للتوسط في مشكلات بلادهم والمساهمة في الترويج لأفكار الخير. لم يخش أن ينتقد سياسات بوش الابن، أو السياسات الإسرائيلية، أو الحملات ضد الإسلام، وساهم بشكل مباشر في حصول جنوب أفريقيا على حق استضافة بطولة كأس العالم لكرة القدم «في ضربة معلم» تاريخية. العالم يحق له أن يفتخر بنيلسون مانديلا، فهو أسطورة تعيش بيننا.

[email protected]