نتنياهو حيَّد الدور الأميركي في اللعبة التفاوضية

TT

نهل أميركا دولة قوية؟ نعم، قوية. لكن هل أميركا دولة ذكية؟ أن تكون قويا لا يعني أن تكون ذكيا. أميركا تعتقد أن القوة تعوِّض عن الذكاء. دبلوماسية الفرض بالقوة، على الأصدقاء والأعداء، هي أفضل وسيلة للتغطية على الأخطاء الفادحة للغباء!

منذ قيامها قبل ستين عاما، اعتمدت إسرائيل على قوة أميركا وغباء فهمها السياسي. اخترق اليهود المؤسسة الحاكمة. سخَّروا هذا الاختراق لفرض إسرائيل على العرب، سلما وحربا. ولأن سياسة أميركا الخارجية، ترسمها المصالح الانتخابية، فقد اضطر رؤساء أميركا المتعاقبون لمنح إسرائيل الأمن المطلق.

كانت الذريعة الأميركية، أمام العرب، ساذجة إلى حد الغباء: كلما سلحنا إسرائيل، ازدادت أمانا. كلما ازدادت أمانا، ازدادت رغبة في السلم!

التجربة أثبتت العكس. سلحت أوروبا إسرائيل بالقنبلة النووية. سلحت أميركا إسرائيل، باستمرار، بما يكفي للتفوق النوعي والتقني على العرب جميعا. فلم تعد راغبة في السلام. بل استغلت أمانها في إدامة احتلالها، وتهديد ومحاربة جيرانها، كلما شعرت بأن هناك خطرا يهدد تفوقها العسكري والاستراتيجي.

عناد إسرائيل حيَّد أوروبا. منعها من التدخل والتوسط في الصراع العربي / الإسرائيلي. بل حيَّدت إسرائيل أميركا في الألعاب التفاوضية مع الفلسطينيين. سحبت إسرائيل عرفات وعباس إلى خلوة أوسلو، من المفاوضات الجماعية التي أدارها الأميركيون في مدريد.

بل فرضت إسرائيل على إدارة بوشبيكر (1992) تقديم ضمانات لقروض حصلت عليها من المصارف الأميركية، بقيمة عشرة مليارات دولار لتمويل التنمية. اشترط غباء أو تغابي الإدارة البوشية الأولى، عدم تمويل مشاريع الاستيطان بالمال الأميركي. كأن أميركا لا تعرف أن المال كالماء. لا يمكن التفريق بين مال يذهب للتنمية. ومال يذهب لسرقة الأرض.

تم «تفشيل» الرئيس بيل كلينتون في كل المفاوضات التي أجراها بين العرب وإسرائيل. اغتيل إسحق رابين عندما حاول تنفيذ اتفاق أوسلو على الأرض. لم يتدخل بوش الثاني في مفاوضات شارون / عرفات. حاصر الأول الثاني. لم يطلقه إلا ليسلمه إلى موت مؤكد.

بعد هياط ومياط بين أوباما ونتنياهو، نجح الأخير في تحييد الأول. نتنياهو يعتقد دائما أن «أميركا شيء يمكن تحريكه بسهولة». تحرك الرئيس الأميركي خارجا من حضرة نتنياهو ليعلن ما معناه الانسحاب الأميركي من دور الوسيط في المفاوضات غير المباشرة. لأن نتنياهو قدم الدليل على «بناء الثقة» في المفاوضات المباشرة مع المفاوض الفلسطيني!

كم يمكن خداع رئيس مثقف بكمية من التجريدات السيريالية الكاذبة! يطلقها سياسي محتال. محترف. أين الشرط الأميركي / الفلسطيني بتجميد الاستيطان؟! بات الغباء الدبلوماسي الأميركي مسخرا كله، لدفع عباس إلى الانتحار السياسي، في مفاوضات مباشرة. وإلا، فالمال والنفوذ اليهوديان لن يكونا في خدمة الحزب الديمقراطي الحاكم في انتخابات الخريف النصفية.

أين المنطق؟ هل نجحت المفاوضات غير المباشرة لتتحول إلى مفاوضات مباشرة؟ اختلف المتفاوضون. اشترط صائب عريقات كبير مفاوضي عباس البحث في حدود الدولة الفلسطينية. أصر الجانب الإسرائيلي على البحث في «طبيعة» هذه الدولة. هل ستكون محيدة، كي لا يقصف عباس أو سلام فياض تل أبيب. ثم لا بد من احتلال حدودها الشرقية (غور الأردن) كي لا يسلح الملك الهاشمي عبد الله بن الحسين دولة عباس بالمدافع والدبابات والصواريخ. أيضا، لا بد لعباس من الاعتراف، لا بوجود إسرائيل، وإنما أيضا بيهوديتها. لكي يسهل في المستقبل الحفاظ على صفاء عنصريتها بطرد 1.2 مليون عربي منها.

لا أدري كيف ذهب عباس وعريقات إلى المفاوضات غير المباشرة! هل صدقا تجميد نتنياهو المؤقت للاستيطان؟! الاستيطان استمر عمليا في بناء ثلاثة آلاف وحدة سكنية في الضفة. بل تضاعف بناء الوحدات السكنية، بمقدار عشرة أمثال خلال الأعوام الأربعة الأخيرة. بصرف النظر عن هدم بيوت العرب في القدس الشرقية، والهجمة الاستيطانية التي تغزو أحياءها العربية.

أعود إلى إجراءات «بناء الثقة» التي وعد بها نتنياهو، لأقول إن عباس نفسه رفضها. فهي لا تعدو كونها إجراءات أمنية لتخفيف الحصار عن الضفة، كان من الواجب تنفيذها، بموجب خارطة الطريق (2003). لكن ماذا عن التعهدات السياسية؟ لا شيء. ما زال نتنياهو غامضا بخصوص شكل الدولة الفلسطينية. حدودها. سيادتها. مساحتها. ما زال غامضا عن الاستيطان. عن التجميد (الرمزي). عن تبادل الأراضي.

ما هو هدف المفاوضات المباشرة، إذن؟ هيلاري قالت منذ نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي إن الهدف التوصل إلى اتفاق لإقامة الدولة الفلسطينية، بحدود 1967، مع تبادل للأراضي. مع اعتراف عربي بيهودية الدولة الإسرائيلية. مع ضمان أمن إسرائيل (تعني ضمان تفوقها العسكري وتحييد الدولة الفلسطينية).

تعب العرب جميعا من ثقافة الرفض المطلق الفلسطينية. بات الزمن يلعب ضد القضية. لا بد من القبول في النهاية بالتفاوض المباشر. التسوية لا تتم في فراغ. أو مع أشباح. لا يعني ذلك أن يكون النظام العربي المطالب اليوم بإضفاء الشرعية على المفاوض عباس، مستعدا للاستسلام لضغوط الإدارة الأميركية. تجربة أنابوليس التفاوضية لا تغيب عن البال. ذهب العرب إلى أنابوليس موعودين بتسوية خلال عام. انتهى العام باختفاء إدارة بوش الضامنة للمفاوضات. وبحرب في غزة، أضعفت عباس. وأبقت على حماس.

في أية مفاوضات سياسية مباشرة، هناك جدول أعمال. هناك بنود واضحة للنقاش والبحث. هناك أفق زمني محدد للوصول إلى تسوية. هناك ضمانات من الدول الراعية والضامنة. النظام العربي مطالب بالتنبه لهذه المفردات. لكي لا يصاب بالإحراج أمام المزايدات العربية والإقليمية. وأمام جمهور عربي لا يثق بأميركا، ومشبع إلى حد التخمة بثقافة الرفض الفلسطينية.

هل يثق النظام العربي بإدارة أوباما؟ أعتقد أنه يثق بها أكثر من ثقته بإدارة بوش. السياسي المثقف أكثر إيحاء بالثقة من السياسي المحترف. أوباما مثقف. لكنه محكوم بإدارة ضعيفة. منقسمة. رجالها متنافسون. مترددون. ولأنه أسود، فأوباما يجد نفسه مضطرا لمسايرة غباء طبقة ومؤسسة بيضاء حاكمة لا تتعلم من تجاربها.

إذا كان النظام العربي يقرأ، فأحيله على ما كتبه روجر كوهين كبير معلقي وكتاب «نيويورك تايمز» عن رجال إدارة أوباما. يهودية المعلق لا تتغلب على ليبراليته وصراحته. يخص روجر كوهين كبيري مستشاري أوباما اليهوديين رام إيمانويل. وديفيد إكسلرود بالقول إن نجاحهما في إدارة حملة أوباما الانتخابية لا يعني أنهما استراتيجيان يفهمان السياسة الخارجية.

نتنياهو له رأي آخر فيهما. يقول عنهما «إنهما كارهان لنفسيهما». يقصد أنهما كارهان ليهوديتهما. أما الجنرال ستانلي ماكريستال الذي طرده أوباما من أفغانستان، فيصف الجنرال جيمس جونز كبير مستشاري أوباما الأمنيين بأنه مجرد «مهرج».