إصلاح السجن قبل إصلاح السجين

TT

كنت أجلس في أحد المقاهي بمدينة كوبنهاغن، ذات يوم، أقرأ صحيفة عربية، حينما حشر جاري في المقعد أنفه ليسألني: «كيف هي الأخبار في عالمنا العربي؟»، ثم ليسرد علي بعد ذلك سيرة حياته، وكيف هاجر من بلده العربي إلى الدنمارك، وحصل على جنسيتها، وكيف أنه لا يعمل الآن لأنه سجين، ولم أستطع أن أفهم كيف لسجين أن يكون في المقهى بلا غفير أو خفير، وقدم لي الرجل محاضرة طويلة عن السجون في الدنمارك، وكيف يتمتع عدد من نزلائها بإجازات قصيرة، يخرجون فيها لقضاء ليلة أو اثنتين، ينعمون فيها بالحرية، ثم يعودون لتكملة عقوباتهم المقررة في سجون تتوفر فيها كل أسباب الراحة.

تذكرت حديث الرجل على الرغم من مرور أعوام طويلة على ذلك اللقاء، وأنا أقرأ خبرا حديثا عن أن النرويج تفتتح السجن «الأكثر إنسانية» في العالم، وجعلت شعاره «معاملة النزلاء بإنسانية تعزز فرص إعادة اندماجهم في المجتمع»، ويضم السجن أحدث مرافق الترفيه، وجهزت غرفه بتلفزيونات، وثلاجات، ونوافذ عمودية تستقبل ضوء الشمس، ولم تسد بقضبان، وتربط النزلاء بحراس السجن علاقة نموذجية، فهم يشاركونهم الطعام، والرياضة والترفيه، كما زود السجن بمنازل من غرفتين ليستضيف فيها النزلاء عائلاتهم.

قد يرى البعض - ممن تختلط غاية السجون في أذهانهم - أن هذا النوع من السجون سوف يعزز من فرص تكرار الجريمة. والحقيقة أن الدراسات العلمية تشير إلى العكس؛ فالسجون الأكثر إنسانية تحقق تأثيرات إيجابية على نزلائها أكثر من السجون التي لا تراعي حقوق الإنسان؛ فنسبة 20 في المائة من السجناء في النرويج، التي تتمتع بسجون أكثر إنسانية، يعودون مجددا للسجن بعد إطلاق سراحهم، بينما تصل المعدلات إلى 50 و60 في المائة في سجون دول أخرى، لا تراعى فيها إنسانية السجين.

واليوم، ثمة قناعة عالمية بأن السجون ضرورة اجتماعية، ولكنها ليست الخيار الأمثل. ولذا، فإن ثمة تطبيقات واسعة للأحكام البديلة للسجون، كالتكليف بأعمال تطوعية، أو تحديد الإقامة في المنزل أو الحي أو المدينة. ويشهد عالمنا العربي بوادر في هذا الاتجاه، وفي السعودية ثمة عدد من القضاة يشكلون الريادة في هذا المجال - على الساحة المحلية - أمثال: الشيخ محمد بن عبد العزيز آل عبد الكريم قاضي محكمة المويه، والشيخ محمد بن عبد الله السحيم، القاضي في محكمة شرورة، والشيخ ياسر البلوي، القاضي في محكمة صامتة. فلهؤلاء وغيرهم اجتهاداتهم الموفقة في تجنيب كثير من الأحداث، وغير أرباب السوابق خطورة السجون، وقد حققت أحكامهم الكثير من غاياتها التأديبية والتربوية.

والخلاصة: نحن في كثير من دول العالم العربي في حاجة إلى إصلاح السجون أولا لنتمكن من إصلاح السجين ثانيا، ومن الحكمة التقليل من الإحالة إليها، حينما يكون في الأفق متسع لبدائل أخرى.

[email protected]