لغتنا العربية

TT

كانت الصحف قد نشرت منذ سنوات خبر مغادرة شيراك قاعة اجتماع القمة الأوروبية غاضبا، إثر سماعه مواطنه الفرنسي، رئيس لوبي الأعمال الأوروبي، يلقي كلمته بالإنجليزية. وقتها ابتسمت وقلت: «والله معه حق، إنه لم يتوقع، أن يسمع فرنسيا يلقي خطابا بأي لغة أخرى غير لغته الأم، بسبب اعتزازه بلغته التي يراها جزءا لا يتجزأ من كرامته الشخصية». هذا تماما يكون شعوري وحالتي عندما أستمع إلى مسؤول رسمي في بلادنا يهجر اللغة العربية ويتباهى بالرطن بلغة أجنبية في محفل دولي ومحلي، أو من دون محفل على الإطلاق، وأتذكر ما حدث عام 1969 عندما وقف الدكتور حسين فوزي - الشهير بلقب «سندباد مصري» - يلقي كلمة «مصر» الرسمية باللغة الفرنسية في افتتاح المهرجان الآسيوي الأفريقي الثقافي، الذي عقد بالجزائر. كنت حاضرة ذلك الموقف مستحضرة أننا في «الجزائر» المحررة من الاحتلال الفرنسي، وأن الكلمة يلقيها ممثل رسمي عن الجمهورية «العربية» المتحدة، وأن «الزمان» و«المكان» لا يرحبان أبدا بتلك المباهاة بفصاحة الدكتور حسين فوزي في اللغة الفرنسية. جاءني من جاء من المثقفين والشعراء من أقطار عربية أخرى يؤنبونني: «ما هذا؟ خطاب (مصر) باللغة الفرنسية؟». شاركتهم الخجل والاستنكار وأعلنت لهم تبرؤي الشخصي من فعلة الدكتور - المعروف عنه التعصب لمصر الفرعونية - وقلت مازحة: «والله كان من الأرحم لو ألقى خطابه بالهيروغليفية!». وعندما واجهت الدكتور حسين فوزي برد الفعل الغاضب من لغة خطابه، هز كتفيه بلا اكتراث، وقال: «الترجمة من العربية للفرنسية ستكون سيئة»! قلت: «طيب يا دكتور وهل ضمنت ترجمة جيدة لكلمتك من الفرنسية إلى العربية؟» قال مندهشا: «وهل هذا من الأهمية؟ روحي.. روحي.. بلاش دوشة!»، ومضى يقهقه معتمدا على خفة ظله التي اشتهر بها.

لم ينفرد حسين فوزي بهذه المخالفة، فقد دأب الكثير، إلا من رحم ربي، على هذه المخالفة المسيئة للشعور القومي والاعتزاز الشخصي بلغتنا العربية، وإن كان الملاحظ أن فصاحة الدكتور حسين فوزي، في اللغة الفرنسية، لم تتوافر دائما لمن ينغمسون، في معظم خطاباتهم وحواراتهم، في الارتكان إلى لغة إنجليزية مضعضعة لاغية.

وقد ساد في أقطارنا العربية، ومصر على وجه الخصوص، الاتجاه إلى التحدث باللغة الإنجليزية أو خلطها في قبح شديد مع اللغة العربية العامية والفصحى، حتى أصبح من المألوف نشر إعلان باللغة الإنجليزية في صحيفة قومية ناطقة باللغة العربية، وأصبحنا نجد متحدثين في القنوات الإذاعية المرئية وغير المرئية يترجمون ما يقولونه بالعربية إلى الإنجليزية، وتكون الكلمة بسيطة ومفهومة تماما للمشاهد العربي باللغة العربية، فيقول المتكلم: «ثقافة» - مثلا - ثم يعيدها بكل استعلاء «كلتشر»! كأن المعنى لن يصل إلا بهذا التتويج باللغة الأجنبية! ناهيك عن «وباء» المذيعات اللاتي لا تسعفهن الكلمة العربية فينفشن أنوفهن بالمقابل الأجنبي: «بوتنشل»، «توك شو»، «نيولوك»، «أبسليوتلي!»، ويرتسم السم الناقع على ملامح الوجه!. وقد بلغت أوجاع مرارتي قمتها أثناء احتشاد كروي لتشجيع الفريق المصري، فقد تم إبراز من سموهن حفيدات حتشبسوت ونفرتيتي وكليوباترا، اللاتي كتبن اسم «مصر» على صدورهن باللغة الإنجليزية/الأميركية: «إيجيبت»، واعتبر البعض، من الكتاب والكاتبات، هؤلاء الفتيات، المتنصلات من لغة بلادهن، الوجه «الحضاري» المشرف لمصر، الذي طال «احتجابه»! مؤكدين بهذا أن وجه مصر «البهية أم طرحة وجلابية»، هو «المعرة»، وشاهد التخلف عن ركب «التقدم» الذي نسعى إلى تحقيقه حثيثا.

وعلى العموم لقد هلت «الخيبة بالويبة»، فقد انعقد مؤتمر توحيد وتجميع القوى «العلمانية»، فبشرى بشرى لبني «إيجيبت»، إذ تحدد هدف الخلاص من «اللغة العربية» و«الدين الإسلامي»، وفقا لطموحات اللادينيين في دولة «لا دينية / مدنية» والعياذ بالله، حتى تكون الاستغاثات من الحرائق: «هلب.. هلب.. فاير.. فاير»، بدلا من «الحقونا.. حريقة.. حريقة..»، وسيكون من المطلوب تدخل «المجتمع الدولي»، بعد عبور حاجز «اللغة» و«الدين»، ويتحقق وعيد «الباشا» الذي هدد به عام 1956، عند الغزو الثلاثي لمصر من إنجلترا وفرنسا والكيان الصهيوني، حين قال سعادته: «بكرة الخواجة ييجي يؤدبكم!».

ربنا لا تؤاخذنا بما يجره السفهاء علينا!