السعودية.. بقدراتها الذاتية تغلب الإرهاب

TT

تتمتع الدولة السعودية بـ«القوة الذاتية» التي تحميها وتنميها، وتمنحها الثقة والعزة. ويمكن للمختصين تلمس مصادر تلك القوة في صحة المبادئ التي تقوم عليها الدولة، وفي انبثاق القيادة السياسية من أعماق المجتمع السعودي، وفي القناعة الراسخة لدى الشعب بما يملكه من إرث عروبي وإسلامي، مع ما حباها الله به من ثروات نفطية متدفقة.

تعاملت القيادة السعودية مع تلك العناصر وغيرها بوعي وحكمة وواقعية، مما صنع لها سياسات واضحة ونكهة متميزة في تناول الأحداث الداخلية والخارجية، وبالتالي استطاعت الدولة أن تحرز النجاح تلو النجاح والانتصار تلو الانتصار، في مواجهة التحديات على مر العقود.

لو أخذنا على سبيل المثال لا الحصر الإرهاب الذي بمثابة «سلاح دمار شامل» في أيدي الفئات الضالة والتنظيمات المتمردة على دول العالم ونظمه ومواثيقه، لأدركنا أن المملكة العربية السعودية المستهدفة من تلك التنظيمات قبل أميركا وإسرائيل، استطاعت بقوتها الذاتية أن تنتصر من دون أن تطبق في الداخل قوانين الطوارئ، ومن دون أن تفرض على شبابها نظام التجنيد الإجباري، ومن دون اللجوء لاستنساخ أساليب الدول الأخرى في المواجهة والمعالجة.

إن من يقرأ بتمعن ما ذكره الأمير نايف بن عبد العزيز، وزير الداخلية ورجل المواقف الصلبة، في هذا الصدد بجامعة نايف العربية للعلوم الأمنية في الرياض (30 يوليو «تموز» 2010) عندما أوضح حجم ومنهجية وهوية المنتمين لفئات الضلال والإرهاب، وكان مما قال ما نصه: «القضايا أو الأعمال الإرهابية التي أفشلت في هذا العقد أكثر من (220) محاولة كانت مستهدفة بها المملكة في مواقع متعددة وضد أشخاص ومسؤولين، وفضلا عن أنها أفشلت، فقد قبض على جميع من هم وراءها»، وأسف الرجل الأول الذي بيده ملفات قضايا الأمن الساخنة، من أن غالب خوارج العصر مواطنون سعوديون، ثم أبدى مشاعر الأسف والألم، والجميع معه في ذلك بحرقة، عندما أوضح انخراط رجال أعمال وحملة شهادات عالية في شبكات الهدم والإرهاب، فقال: «للأسف خلال السنتين أو الثلاث الماضية والآن، ظهرت لنا مجموعات للأسف مؤهلة تأهيلا علميا، ومنهم من يحملون شهادات عالية، وظهر لنا ممولون بالمال، إذن هناك فكر ومال، هذا يؤسفنا كثيرا، بل يؤلمنا». من يقرأ ما سبق ذكره بتمعن يدرك باليقين أن قوى الأمن السعودي تؤدي واجباتها بتفوق، وأن الدولة صامدة في وجه أولئك المخربين، وأنها وضعت يدها على مسارب ومرجعيات الإرهاب وخطوط إمداداته، واستطاعت الوصول إلى الطوابق السفلية لتلك الفئات الكامنة منذ سنين.

وذلك يعني أن الدولة منتصرة على الإرهاب، مهما أعد قادته ومناصروه من عدة في جبال أفغانستان، وفي أودية وهضاب اليمن، ومهما جيشوا للدعاية والتجنيد من مواقع الإنترنت التي قاربت (5000) موقع، ومهما بنوا من تحالفات مع دول الفوضى والمغامرات.. كملاذات ومنصات للتخطيط والتدريب والتعبئة والانطلاق.

الإرهاب الذي خدمته العولمة وثورة الاتصالات يستند إلى نمط من أنماط التدين الفاسد المتناقض الذي يكفر الأنظمة والمجتمعات ويستبيح الدماء والأموال، ويسبغ الشرعية على قياداته المزيفة المختفية أو الوهمية.

القوة الذاتية السعودية تملك المبادئ الدينية الصحيحة منذ إعادة تأسيسها على يد المؤسس الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل فيصل آل سعود - رحمه الله - عام 1902م، مع سجل حافل في خدمة المقدسات، ونشر العلوم الشرعية، وتطبيق مبادئ الدين الحنيف. ومن يسلك سبيل المزايدة بالدين على المجتمع السعودي - بلا شك - سيبوء بالفشل، لأن التدين سمة المجتمع، والدين من أسس تكوين الدولة في جميع قطاعاتها وقراراتها وتوجهاتها. وما أعلنته وزارة الشؤون الإسلامية أخيرا من تهيئة (20) ألف خطيب وداعية ينتمون لمدارس فكرية شتى لكنهم «يفعلون ما يؤمرون» تحت شعار «الجهاد الأكبر» لمواجهة تنظيمات الغلو والتطرف في كل ميدان لخير دليل على قوة المجتمع السعودي دينيا وقدرته على المواجهة بالسلاح نفسه الذي يتسلح به أولئك المفسدون في الأرض.

إن ما حدث من صدمة لكبار المسؤولين، ولعموم الشعب السعودي على أثر أحداث 11 سبتمبر «أيلول» الكارثية في نيويورك وواشنطن عام 2001م انتهى، وأصبح تاريخا. والدولة ماضية في تفعيل قواها المتنوعة لمواجهة الحقائق المرة التي أوضحت انحراف الصحوة الإسلامية عن مسارها، وحددت الأبعاد الخطيرة لما وصل إليه توظيف النسخة المشوهة للدين في خدمة أعداء الوطن والأمة.

التقطت الدولة أنفاسها بعد انقشاع كتل الدخان الكثيفة للكارثة، فتحركت في ثقة وثبات لمواجهة التهديد المتمثل في الإرهاب.. معلنة الحرب عليه بلا هوادة على جميع الأصعدة.

كان لأجهزة الأمن السعودي شرف السبق في المواجهة قبل أحداث 11 سبتمبر الكارثية بسنوات، كما أثبتت الوقائع والمعلومات، وكانت تلك القوى التي تعمل في ميادين الشرف دقيقة وأمينة، فيما تصل إليه من معلومات ونتائج، وفيما تصدره من بيانات وتحذيرات وقوائم للمطلوبين، وفيما تتخذه من إجراءات، وفيما تقوم به من تواصل مع ذوي المطلوبين ومع من لهم صلة بالأحداث. الأمور التي مكنتها من النجاح في مهامها، ومن كسب ثقة الناس والحصول على تعاونهم، حتى أصبحت تلك القطاعات محل فخر للوطن، وجهات إشادة من قادة العالم، ومن المختصين في شؤون الأمن والسلم الدوليين.

من المهم أن نسجل هنا أن حدثين مهمين لم ينالا القدر الكافي من الدراسات والمعالجات، أسهما في صناعة فكر الإرهاب وتنظيماته وهما: أولا: غزو أفغانستان من قبل الاتحاد السوفياتي السابق عام 1979م، وما تلاه من جهاد وصراعات على الحكم بين الفصائل الجهادية بعد خروج الغازي الروسي عام 1989م. ثانيا: احتلال النظام العراقي السابق لدولة الكويت في 2 أغسطس (آب) 1990م، وما صاحب التحرير من انقسامات عربية - عربية وما عايشته الأمة الإسلامية من مجادلات وانفعالات وانقلابات داخل حركات وتوجهات الصحوات الإسلامية. هذان الحدثان الأليمان كونا الخميرة الدينية الجهادية لمفكري ومفتي وقادة الإرهاب الذين لم يفوتوا الفرص على أنفسهم لتدشين حقبة من الصدامات والنزاعات على أسس دينية مغلوطة، ومن خلال قوالب وتكتلات حزبية وقبلية وإثنية.. مستفيدين من موجة العولمة التي منحتهم الفرص للتحرك والتجنيد والتدريب وجمع الأموال على مستوى العالم.

شاءت إرادة الله أن تكون المملكة العربية السعودية في عين العاصفة في أحداث هذه الحقبة من دون تفويض لأولئك الغازين، أو رضا من متخذي القرار وأهل العلم والرأي، إلا أن الأحداث المرتبطة بالدين الإسلامي دوما تنعكس على السعودية، هذا هو قدرها، لأنها الرائدة في تحكيم الشريعة الإسلامية، ولأنها تحتضن الحرمين الشريفين، ثم لأن شبابها متهيئون للتفاعل مع كل ما له صلة ببلاد وقضايا الإسلام والمسلمين، فكانت بذلك ومن دون اختيار في عين العاصفة، مع ما لتلك الأحداث من فظاعة وخسائر ونتائج وخيمة على الدين وعلى الدولة وعلى الأمة.

مع كل ذلك عقدت القيادة السياسية السعودية العزم على المواجهة، والخروج من المأزق بخوض ميادين الحرب على الإرهاب مهما كلف الثمن. وكان لها ذلك، وخرجت منتصرة ظافرة بفضل الله ثم بفضل اعتمادها على مصادر قوتها الداخلية التي تم تفعيلها وإدارتها بنجاح ومهنية.

لم تكن المواجهة سهلة ولم تحقق أجهزة الأمن النتائج المبهرة بيسر، لأن مواجهة الإرهاب والغلو الديني تكون أصعب في المجتمعات المتدينة. والمجتمع السعودي مجتمع متدين، فكيف يمكن الفرز، من دون صلف ومظالم بين فئات الضلال وتنظيمات التطرف والإرهاب الذين يشكلون خطرا على المجتمع، وبين عموم الشعب المتدين المصلي المحافظ في حياته على الشعائر الدينية وعلى المظاهر والشكليات الشرعية!. لا شك أن المهمة كانت صعبة، ومع ذلك تم الفرز، وكسبت أجهزة الأمن المعركة.. مع الحفاظ على طمأنينة المجتمع وانسيابيته.

لدى المملكة العربية السعودية قرابة (70) ألف مسجد، منها (15) ألف جامع تقام فيها صلاة الجمعة، ونسبة التعليم الديني في المناهج التعليمية أكثر من 37%، ولدى جهاز هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قرابة (5000) منسوب، ما بين إداريين وميدانيين، وقرابة (400) فرع على مستوى الوطن، ناهيك عن المحاكم والمؤسسات الدينية، والمعاهد الشرعية، والجمعيات الخيرية لتحفيظ القرآن التي ينتمي لها الآلاف في مختلف المدن والمحافظات، مما يسهل على المنتمين للتشدد والتطرف والإرهاب، الاندساس والاختفاء، بل وأحيانا المكابرة وادعاء أنهم الأصل، وأهل الاحتساب، وحراس الفضيلة. ومع ذلك نفذت قوى الأمن في الدولة بدعم مجتمعي في أوساط تلك المنظومات، وعزلت الصالح من الفاسد، وأخرجت المطلوبين والمشتبه بهم من جحورهم ومن كهوفهم ومن الصحاري التي يختفون فيها. بل لم يجد بعض قادة أولئك المطلوبين ملاذا سوى في ارتداء ملابس النساء للهروب من عيون وسواعد قوات الأمن المخلصة والشجاعة، التي هي مصدر من مصادر القوة الفاعلة في المجتمع السعودي بإخلاص وبسالة، لا مكان فيهما للتردد ولا للنكوص. لقد أقسمت تلك القوى أثناء تخرجها من التعلم والتدرب على الإخلاص والولاء لله ثم للمليك وللوطن وبرت بالقسم. ولقد جنت الدولة ثمار ما غرست فيهم من إيمان ووطنية ومشاعر نبيلة، وما منحتهم من قدرات وثقة وتقدير.

نجحت الاستراتيجية السعودية في محاربة الإرهاب نجاحا باهرا، وكان للمتابعة على الأرض وعبر الأجهزة التقنية الحديثة، وللضربات الأمنية الاستباقية، ولبرامج التوعية والمناصحة، ولمركز محمد بن نايف للرعاية والتأهيل أكبر الأثر في تطويق الإرهاب وكسر ظهره، مع المحافظة على أمن الدولة وهيبتها وسلامة المجتمع وتعاونه، لذا، لم تعد أحداث 11 سبتمبر الكارثية عقدة في مسيرة التاريخ السعودي، وإنما أصبحت مدرسة متميزة في التحدي والمواجهة، ونظرية جديدة في عبقرية تفعيل مصادر القوة الذاتية.

* كاتب سعودي، وعضو سابق بمجلس الشورى