الإعلام العربي.. ونكت أخرى!

TT

يستعد التلفزيون المصري للاحتفال بمناسبة مهمة وهي مرور 50 عاما على إنشائه، وهو - بالمناسبة - ليس التلفزيون العربي الأقدم، فقد سبقه التلفزيون العراقي قبل ذلك بثلاث سنوات، وكانت أيضا شركة خاصة تبث تجريبيا في لبنان، وكذلك كانت الجزائر تلتقط التلفزة الفرنسية من فرنسا لصالح الجالية الفرنسية فيها. ولكن كبر التلفزيون المصري، وكان أداة نافذة في الخطاب السياسي الناصري تدعمه قدرات ومواهب إبداعية موجودة في مصر تميزها عن غيرها من الدول العربية الأخرى فأصبح مؤثرا وناجحا.

واليوم يجري الحديث عن تطور وتدهور هوامش وسقوف الحرية في الإعلام (بحسب وجهة نظر محدثيك!)؛ فهناك من يرى أن هامش الحرية الإعلامية قد زاد في الإعلام العربي بشكل باهر، وأن الكم الهائل من الوسائل والمنابر الإعلامية لا يمكن إنكار وجوده ولا التقليل من تأثيره. هذا صحيح.. هناك حالة من «الزحمة» الإعلامية و«الضجيج» المصاحب لها، وأجمل وصف ينطبق عليها هو «الدوشة» و«الحوسة». أصوات تعلو وتتصايح وتصل إلى حد الشتائم والسب، وأخبار هي أشبه بقصائد القذف والهجاء، وتقارير مليئة بالأخطاء وخالية من الدقة والتوثيق، تشغل الناس بقضايا هامشية وتحولها إلى ما يشبه «العلك» و«اللبان»، فيظل المتلقي يعلكها حتى تنتهي وتنفد نكهتها وسرعان ما يمل منها ويبصقها ليأخذ غيرها!

أما القضايا الجادة فلا تلقى الطرح ولا تجد الاستعداد لتعاطيها.. قضايا تشكل وجدان وضمائر الناس مثل محاسبة الفاسد ومواجهة المتطرف، والإصلاح بمفهومه الكامل وليس الشكلي. فأنت في بعض الدول قد يكون بإمكانك نقد أحد الصحابة رضوان الله عليهم، ولكن لا يمكن أن تنتقد وزير المالية مثلا. فالحرية المنشودة والخطاب الإعلامي المطلوب هو أن تمارس هذه الوسائل دورها بشكل مسؤول ومتزن لتكون السلطة الرابعة فعليا. الإعلام العربي له ومضات نجاح، ولكنها تبقى ومضات، وهي أشبه بحال الكهرباء نفسها في العالم العربي، غير قادرة على الاستمرار لأكثر من ساعات معينة في اليوم الواحد ثم سرعان ما تتوقف وينقطع التيار، هكذا حال الإعلام العربي. بعد انقضاء «الزعيق» و«الدوشة» تعود الأمور إلى الهدوء والركود.

وأستغرب هذا الكم المهول الموجّه للإعلام الرياضي والفني ومؤخرا الإعلام الديني، بينما يغيب الإعلام الاقتصادي بشكل واضح ويمنع بشكل لا يمكن إخفاؤه عن إظهار مكامن الخلل في كيانات ومؤسسات مالية، والكشف عن المحسوبيات والشللية والرشى والمصالح الخفية، التي يتحدث عنها الناس في مجالسهم ولدى الكثيرين منهم أدلة وبراهين وتجارب خاصة تؤكد ذلك. كل ذلك لو تم التطرق إليه بجد وأمانة، وفُعّلت معه منظومتا الثواب والعقاب، فحتما سيكون للصالح العام ووسيلة تطوير وإصلاح وتحسين. أعتقد أن هذا هو الهدف المنشود.

وحتى تتحقق نقلات جادة من هذا النوع، ستبقى الفورة الإعلامية في العالم العربي مجرد ضوضاء وزحمة تسير بشكل ذكي لشَغل الناس تارة ولأجل التنفيس تارة أخرى، وفي كلتا الحالتين تفشل تماما في تحقيق الغاية الأساسية من وجود الإعلام، وهي أن يكون أداة إصلاح وعينا وضميرا للأمة.

[email protected]