شكرا لصحيفة «الواشنطن بوست»

TT

على كل من يعمل في عالم الصحافة أن يقدم جزيل الشكر لصحيفة «الواشنطن بوست» الأميركية لأنها قدمت لنا درساً مهماً، ومفيداً في عالم الصحافة الجادة، لا صحافة الفهلوة المبنية على التنظير وتمجيد ماض مختلق.

فها هي الصحيفة الأميركية، التي سبق لها أن أطاحت برئيس الولايات المتحدة الأميركية الأسبق نيكسون، تكشف لنا مجدداً في تحقيق صحافي استغرق عامين من العمل الصحافي الجاد «أميركا بالغة السرية»، حيث تبين لنا في عمل صحافي جبار ينشر على ثلاث حلقات كيف تضخم دور الأجهزة السرية في أميركا بعد أحداث 11 سبتمبر (أيلول) 2001 الإرهابية لدرجة أن العاملين في تلك الأجهزة السرية، والذين يحملون بطاقات سرية، تجاوز عددهم مرة ونصف المرة عدد المقيمين في مقاطعة كولومبيا، أي العاصمة الأميركية واشنطن دي سي.

بالطبع هناك دروس كثيرة مستفادة من التحقيق الصحافي، سواء سياسية أو أمنية، أو رقابية، أو تنظيمية، لكن هناك دروساً أخرى، ومنها الشق الإعلامي، حيث أثبتت «الواشنطن بوست» أن الصحافة الورقية ما زالت هي مدرسة العمل الصحافي الجاد والرصين وليس الإنترنت، أو التلفاز؛ فالصحافة الورقية تعني الرصد والدقة، والاستقصاء الجاد والرصين.

فتحقيق «أميركا بالغة السرية» عمل صحافي لم نرَ مثيلا له في عالم الإنترنت، ولا التلفاز، فهاتان الوسيلتان لا تزالان كالإسفنجة بالنسبة للصحافة الورقية، حيث تمتصان كل ما تنشره الصحف الورقية وتقومان بإعادة تسييله، كالإسفنجة تماما، بل وبكل مفاخرة، وفي حالتنا العربية النماذج صارخة، خصوصاً لمن يقرأ ويتابع، ويشاهد، حيث يرى كيف تسرق جهود الصحافة الورقية على رؤوس الأشهاد، ثم يقال لنا إن الصحافة الورقية قد انتهت.

فتحقيق صحيفة «واشنطن بوست» عن «أميركا بالغة السرية» كان مبنيا على مراجعة آلاف الأوراق الحكومية الرسمية المحتوية على الكثير من الملفات والسجلات، والوثائق، من عقود، وتوصيف وظيفي، ومواقع عقارية، ناهيك عن المئات من اللقاءات الصحافية مع ضباط، ومسؤولين على رأس العمل، ومتقاعدين، وشركات، ومعاينة للمواقع، إضافة إلى فريق كامل تفرغ فقط لتأسيس موقع إلكتروني خاص بالتحقيق الصحافي على الانترنت، وتبسيطه برسومات غرافيك، وتوثيق جميع السجلات والملفات فيه، مما دعا صحيفة «نيويورك تايمز» المنافس الشهير لـ«واشنطن بوست» للقول إن «واشنطن بوست» وجهت ضربة إلى الأعلى.

الدرس الآخر من تحقيق «الواشنطن بوست» عن «أميركا بالغة السرية» هو أن الصحيفة نشرت رسالة مع نشرها للتحقيق تقول فيها للقارئ إنها راعت الأمن الوطني، وقامت بعرض بعض المعلومات على الجهات المسؤولة، وحجبت، وأزالت، ما قد يعرض الأمن الوطني للخطر، لكنها، أي الصحيفة، لم تتجاوب مع الأجهزة الأمنية التي لم تتجاوب بدورها مع الصحيفة. ولذا، لزم على أبناء مهنتنا أن يشكروا «الواشنطن بوست» لأنها قدمت لنا درساً جديداً مهماً في العمل الصحافي، وأثبتت أن العمل الصحافي الرصين هو سمة الصحافة الورقية، وغيرها لا يزال مجرد إسفنجة فقط.

[email protected]