الوجه الآخر لحكاية شهرام أميري

TT

تصدرت قصة شهرام أميري، وهو باحث إيراني في المجال النووي، واجهة الأخبار خلال الأسبوعين الماضيين. أميري الذي يعمل في جامعة مالك أشتر في طهران كان قد اختفى في السعودية - بحسب الرواية الإيرانية - على أيدي المخابرات الأميركية لأكثر من عام ليعود بعد ذلك ليظهر في تسجيل على موقع «اليوتيوب»، وبعد ذلك في تسجيل خاص للقناة الرسمية الإيرانية. وخلال العام الماضي كررت إيران اتهاماتها للأميركيين في ظل نفي أميركي، ولكن خلال الشهور القليلة الماضية عاد الأميركيون ليؤكدوا وجوده، بل وذهبوا إلى أبعد من ذلك حينما سمحوا له بكل حرية أن يغادر البلاد عائدا إلى طهران. الحكاية في مجملها محفوفة بالأسئلة والمتناقضات، وسيستمر البعض في محاولة فك ألغاز ما حدث دون جدوى لأن القضية في النهاية عمل استخباراتي سري، وما تراه على السطح لا يعكس بالضرورة حقيقة ما جرى.

بيد أن الأكيد هو أن حكاية أميري لم تكن الأولى إيرانيا، ولن تكون الأخيرة، بل إن حكاية أميري جاءت في شهر استخباراتي بامتياز. إذ كشفت الولايات المتحدة عن خلية من العملاء الروس يعملون في الولايات المتحدة، وتم خلالها تبادل للعملاء بين البلدين في مشهد يذكر بالحرب الباردة. كما أقدمت كوريا الجنوبية الأسبوع الماضي على اعتقال رجل أعمال شهير بدعوى أنه يعمل لصالح كوريا الشمالية. يبدو أنه في عصر الإنترنت، والطائرات الموجهة من دون طيار، والتصوير بالأقمار، لا تزال أجهزة المخابرات بحاجة إلى عناصر بشرية لاختراق بلد شاسع مثل أميركا على صفحات «الفيس بوك»، أو تصوير وثائق يمكن الحصول عليها عن طريق القرصنة عبر الإنترنت.

في كتاب «التاريخ الخاص لسي آي إيه» (1997) يكشف برادفور ويسترفيلد أن ظاهرة انشقاق الفرد عن وطنه وتطوعه للعمل في استخبارات أجنبية ثم عدوله عن ذلك وإصراره على العودة لبلده حدثت مرارا خلال العقود الماضية، وأن عددا من تلك الحالات كان غامضا وغير محسوم حتى بالنسبة للعاملين في أجهزة المخابرات، إذ أن كل عميل كان يتم التعامل معه على احتمال أن يكون عميلا مزدوجا. ولعل أبرز قصة مشابهة لحكاية أميري كانت لضابط المخابرات الروسي فيتالي يوريشنكو الذي انشق في عام 1985 إلى الولايات المتحدة خلال رحلة عمل إلى روما، وقد قام بتزويد المخابرات الأميركية باسم عميلين كانا يعملان داخل مقر المخابرات الأميركية، ولكن وبعد مضي ثلاثة أشهر قرر يوريشنكو الهرب. فأثناء تناوله الطعام مع الضابط المكلف حمايته في مطعم قرب جامعة جورج تاون بواشنطن تمكن من الهرب عبر دورة المياه ولجأ إلى سفارة الاتحاد السوفياتي التي أعادته إلى موسكو، حيث قرروا عدم تصفيته لإقناع الكثير من المنشقين في الخارج بالعودة سلميا.

تحت عنوان «سيكولوجية الخيانة» - في الكتاب نفسه - يشير ويليام مارب - وهو كبير المحللين النفسيين بالوكالة - إلى أن «الخيانة بالنسبة لأولئك المستعدين للانشقاق عن بلدانهم هي في الغالب نتاج مشاعر قوية أبرزها الإحباط التام»، وأن نتائج دراسة أجريت على العشرات من العملاء خلال الثلاثين عاما الماضية أكدت تمكن أمراض نفسية محددة منها «اللانضج / الاندفاعية»، و«سيكوباثية»، و«عشق الذات اللاشعوري».

حتى نفهم حكاية أميري يجب وضعها في الإطار الأكبر، فعلى المستوى الفردي يمكن أن يكون أميري مجرد عميل لأميركا تراجع خوفا على عائلته، أو أن يكون عميلا إيرانيا كان مخططا له أن يضلل الأميركيين. صحيح أنه كان يعمل في جامعة تابعة لوزارة الدفاع، وهي مالك أشتر، لم يتح للمفتشين الدوليين زيارتها في السابق، وأنه كان قريبا من محسن فخري زاده، الذي تعتقد كثير من دوائر الاستخبارات العالمية أنه بمثابة الأب الروحي للمشروع النووي الإيراني - أو عبد القدير خان الإيراني كما سماه البعض - ولكن أهميته بالمعنى الاستخباراتي كانت محل شك لأنه لم يكن فعلا عالما نوويا، أو مطلعا على خصوصيات البرنامج النووي، بل الأكيد أنه لعب دورا أكبر مما يستطيع القيام به.

المهم في قضية أميري ليس شخصه، بل ربما يكون قد استخدم من كلا الطرفين أو استخدمهما، بل المهم هو ما قاله، أو ما أوصله للطرفين. في مطلع عام 2007 نشر المجلس الوطني للاستخبارات في أميركا تقرير «التقديرات» الذي يتحدث عن المخاطر الاستراتيجية التي تواجه الولايات المتحدة، وكان أبرز تلك التقديرات هو الذي يتعلق بالملف النووي الإيراني حيث قال التقرير بلغة جازمة إن إيران أوقفت برنامجها العسكري في 2003 رغم استمرارها في التخصيب. حين صدر التقرير تلقته كثير من الحكومات بالاستغراب، إذ إن المعلومات المتوافرة حينها كانت على العكس من ذلك. في يوم الاثنين الماضي (16 يوليو) نشرت «النيويورك تايمز» تقريرا نقلت فيه على لسان مسؤول سابق - لم تسمّه - بأن تقرير 2007 اعتمد بشكل رئيسي على المعلومات التي تم استقاؤها من شهرام أميري. إذا ما ثبت ذلك، فإن للمرء أن يتساءل عن صحة عشرات التقارير والتوصيات التي تقدم لصناع القرار حول العالم، التي بموجبها يتم اتخاذ قرارات تمس مصالح وأمن الملايين.

خذ على سبيل المثال حرب العراق، التي ذهب البعض في الحكومة الأميركية إلى حد الاعتماد على مصدر عراقي منشق اسمه رافد أحمد علوان ادعى أن العراق كان ينقل معامله البيولوجية على ناقلات شحن عملاقة. هذه المعلومة وردت في خطاب حالة الاتحاد الذي ألقاه الرئيس بوش في 2002، وخلال كلمة كولن باول - وزير الخارجية الأسبق - في مجلس الأمن عشية غزو العراق. نظام صدام حسين كان يشكل خطرا على الأمن الدولي، ولكن تبرير غزوه بدعوى الأسلحة البيولوجية أو الكيماوية كان خطأ.

الاعتماد على مصادر منشقة أمر روتيني في العمل الأمني، فمن دون الحصول على معلومات داخلية لا يمكنك أن تبني تصورا، أو تشكل أجندة سياسية تجاه أي تهديد سياسي أو عسكري من الممكن أن يواجهك كنظام سياسي، ولكن المشكلة هي في الاعتماد على عنصر واحد تتحكم في خياراته وتصرفاته سيكولوجية الإنسان الطبيعية، التي تتبدل وتتغير بمرور الأيام. الاعتماد على مصدر وحيد هو فشل مؤسساتي، ونتيجته الحتمية هو أن المنشق سيقول الأخبار التي تريد الجهة التي استخدمته سماعها، أو أن ينقل معلومات يريد الغير ترويجها.

كان المرء يظن أن التقدم التكنولوجي ربما يسهم في توفير معلومات ذات مصداقية لصانع القرار، ولكن تبين أن ذلك التقدم قد وفر معلومات أكثر من قدرة أجهزة المخابرات التقليدية على معالجتها، وبالتالي التحقق من صحتها، ولهذا تحول صاحب القرار إلى عراف يختار من السيناريوهات ما يطمئن إليه قلبه. إذا كانت قضية أميري قد كشفت عن شيء فهو أن حجم ما نعرفه عما يحدث داخل منطقتنا محدود للغاية حتى بالنسبة لصناع القرار، وأن ما يقال بوصفه معلومات غاية في الأهمية قد لا يتعدى ظنونا ابتدعها خيال رجال أمثال شهرام أميري.