خواطر حول القمة الثقافية العربية

TT

سمعت أن «مؤسسة الفكر العربي» بقيادة الأمير خالد الفيصل تحضر لقمة ثقافية عربية بالاشتراك مع جامعة الدول العربية، وعلى الرغم من أنه لا توجد عندي معطيات خاصة، غير الذي قرأته في الصحف، فإن الخبر أثار انتباهي ودفعني إلى بعض التأملات. الفكرة جيدة بحد ذاتها وتستحق العناية والاهتمام. ومن المعلوم أن جامعة الدول العربية برئاسة أمينها العام السيد عمرو موسى كانت قد دعت المثقفين العرب الكبار إلى ما يشبه مؤتمر القمة بعد ضربة 11 سبتمبر (أيلول) مباشرة. وكان الهلع، قد استولى على النفوس آنذاك، وشعر السياسيون بأنهم ليسوا قادرين وحدهم على مواجهة تداعيات هذا الحدث الذي دشن القرن الحادي والعشرين. أو قل أرادوا أن يستنيروا بتحليلات وآراء المفكرين.

لِمَ لا؟ جميل أن يشعر القادة والزعماء الذين يحكموننا بأن للمثقفين دورا يمكن أن يلعبوه في تشخيص القضايا الكبرى وإنارة الرأي العام، بل ومساعدة أصحاب القرار على اتخاذ قرارهم على هدي من أمرهم. هذا ليس عيبا ولا مخجلا على الإطلاق. هل تعتقدون أن رؤساء الدول الكبرى يتخذون قراراتهم بشأن العرب والمسلمين من دون استشارة كبار المستشرقين الفرنسيين والأميركيين والإنجليز والألمان المختصين بالموضوع؟

إذن هناك علاقة بين رجل الثقافة ورجل السياسة. وهي علاقة يمكن أن تكون تكاملية، لا تصادمية على عكس ما نتوهم، فالأول هو الذي يشخص المشكلة من كل جوانبها، والثاني هو الذي يحسم الأمر ويتخذ القرار بعد أن يطلع على التشخيص. إذن هناك قضيتان منفصلتان ومتكاملتان، قضية التشخيص الصحيح للمشاكل الكبرى المطروحة علينا نحن العرب حاليا، وقضية معالجتها أو تطبيق الدواء المقترح. الشق الأول من اختصاص المثقفين، والشق الثاني يعود للسياسيين. ومعلوم أن التشخيص الدقيق والصحيح للمرض هو نصف الطريق إلى العلاج، إن لم يكن أكثر، وربما كان سبب تعثر السياسة العربية أو عدم فعاليتها يعود إلى اتخاذ القرار من دون استشارة أي مثقف أو اختصاصي حقيقي في الموضوع. فرجل السلطة عندنا يشعر عموما بحساسية تجاه المثقف، بل ويكرهه ويخاف منه إن لم يكن طيعا، مدجنا. وهنا تكمن مشكلة حقيقية؛ فالمثقف إذا ما مالق الزعيم السياسي فسوف يكذب عليه، ولن يصارحه بحقيقة المشكلة، بل وسيقدم له تشخيصا مزيفا أو خاطئا لها لإرضائه. وتكون النتيجة كارثة، تماما مثلما يفعل الطبيب عندما يقدم تشخيصا خاطئا للمرض فيقتل المريض بدلا من أن يشفيه.. ولذا يمكن القول بأن الثقافة تسبق السياسة وتعلو عليها وليس العكس. أحيانا يتساءل المرء: أليس سبب فشل السياسة العربية ناتج عن اتخاذ القرار من دون أي تشخيص عميق ومضيء للمشكلات؟

أعتقد شخصيا أن عقد مؤتمر قمة للثقافة العربية يوحي ضمنيا بأن مؤتمرات القمة السياسية وصلت إلى جدار مسدود أو لم تعد مقنعة كثيرا، على الرغم من ضرورتها. فهي أفضل من اللاشيء. المسألة الأساسية تكمن في السؤال التالي: هل سيتجرأ المثقفون العرب على مصارحة القادة بنوعية المرض أو خطورته؟ بل وهناك سؤال سابق عليه: هل يعرف المثقفون أنفسهم نوعية المرض الذي نتخبط فيه حاليا أو نعاني منه؟ هل هم قادرون فعلا على تشخيصه ووصف الدواء له لكي يتخذ القادة القرار ويحسموا الموضوع؟

أخشى أنه بعد فشل القمم السياسية العربية أن تفشل القمم الثقافية أيضا! ولكن لماذا نقطع الطريق على القمة الثقافية قبل حصولها؟ لماذا لا نعطيها فرصة الانعقاد على الأقل؟ وبالتالي فأنا من أنصار عقد مؤتمر قمة ثقافية عربية. ولكن من سيدعى إليه ويدخل الجنة؟ ومن سيحذف اسمه في آخر لحظة لسبب أو لآخر؟

من الواضح أن جامعة الدول العربية لا تستطيع أن تدعو جميع المثقفين العرب إلى هذا المؤتمر العتيد على مستوى القمة. سوف تضطر إلى الحذف والاختيار. والمحرومون من الدعوة، ربما شعروا بالغبن والحزن الشديدين، ولكن هذه هي طبيعة الأمور، ولا يوجد حل آخر. كل ما نتمناه هو أن يكون من بين المدعوين عدد لا بأس به من مثقفينا القادرين على تشخيص الأوضاع ومصارحة الناس بالحقيقة.

هناك فكرة ممتعة للفيلسوف الألماني هابرماس الذي يستضيء قادة ألمانيا وأوروبا أحيانا بتحليلاته العميقة. يقول فيها بما معناه: «في كل فترة من فترات التاريخ تدخل الأمة في غيبوبة أو عتمة جديدة أو ضباب كثيف. ولا تعود ترى أمامها تقريبا فتشعر بالهلع، فعندئذ يصبح الجميع، يخبطون خبط عشواء. في مثل هذه الظروف المدلهمة يظهر المفكرون الكبار لكي يبددوا الظلام عن وجه الأفق فتنفرج الحالة وتزول العتمة الضبابية، ويصبح الطريق سالكا من جديد».

هذا ما حصل للألمان والأوروبيين كلهم في القرن السادس عشر، عندما كانت المسيحية في حيرة شديدة من أمرها، فظهر فيهم لوثر. وكان الإصلاح الديني الشهير. ثم أطبقت عليهم غمة كبيرة أو عتمة جديدة في القرن السابع عشر فظهر فيهم ديكارت، وأعطاهم المفتاح الفلسفي والمنهج العلمي الفعال.

وهذا ما حصل لهم مرة ثالثة في القرن الثامن عشر عندما انسدت الحالة مرة أخرى، فظهر فيهم روسو، وكانط، وهيغل.. وكان عصر التنوير الكبير.. في كل مرة كان نور الفكر يشق عنان السماء ويبدد عتمات الظلام..