التستر على شرطي وحماية النظام

TT

قبل أيام نطق القاضي ببراءة المتهمين في القضية المشهورة في مصر بالدم الملوث، بعد أن ظن كثيرون أن المحكمة ستعلق لهم المشانق. طبعا من هم في صف المتهمين اعتبروه قضاء عادلا، والذين على الجانب الآخر من الرصيف وصفوها بالأحكام السياسية لحماية شخصيات سياسية، مثل شقيق رئيس مجلس الشعب المصري. وقبلها ذاعت حادثة وفاة موقوف اسمه خالد سعيد يقال إنه قتل على أيدي الشرطة، وشهد التشريح الطبي الرسمي بأنه مات من جراء ابتلاع مخدر، إلا أن الأصوات ازدادت استنكارا لأن وجه المتوفى يبدو مشوها. ونجحت المعارضة في فرض فتح الملف من جديد واقتيد بعض الضباط للتحقيق.

ومن الطبيعي أن تحدث مخالفات في سلك يعمل فيه عشرات الآلاف، ولا يعني ذلك أن ما يفعلونه بموافقة أو رضا الحكومة، لكن الامتحان هو في نزاهة التحقيق عندما يصبح أحد أبناء السلطة طرفا في المشكلة، وهنا نجد أن معظم الحكومات العربية لا تجد من يصدق بياناتها. وأخطر ما تواجهه هو ضعف المصداقية. وهذه حالة عامة في العالم العربي لأن عامة الناس تصل في مرحلة إلى التشكيك الدائم، وتميل إلى تصديق الإشاعات حتى لو صادف أنها صادقة في قضية واضحة. فمثلا برأت المحكمة المتهمين، موضحة أن الدم وصل إلى المستشفى سليما وفق المواصفات، لكن التخزين السيئ في المستشفى تسبب في تلويثه. والحقيقة أن كلتا الروايتين المتناقضتين محتملة.

القاضي الحقيقي هنا هم الناس الذين لا يدرون كنه الحقيقة، لكنهم مستعدون لإطلاق الأحكام. فقد يكون حكم المحكمة سياسيا، وقد يكون بالفعل هؤلاء أبرياء لكنهم صاروا ضحية معارضة شرسة تريد تلبيس النظام أي قضية من أجل إذكاء حالة الغضب السياسي.

ومن الواضح أن الحكومات تخسر كثيرا في معالجتها قضايا المجتمع، وتخلط بينها وبين دعاوى المعارضة ومقاصدها. تريد أن تحافظ على هيبتها فترفض التنازل لمطالب المعارضة التي تعتقد أنها تريد الوصول إلى الحكم. وفي الوقت نفسه تغض النظر عن مخالفات حقيقية يرتكبها منسوبو النظام. وهنا تخلط الأنظمة بين تحصين هيبتها وحماية المجرمين. فلماذا يدافع أي نظام عن ضابط ألقى القبض على متهم وضربه حتى الموت؟ ما الذي يدفع أي سلطة للتستر على أفعال خطيرة من قبل المنتسبين إليها؟

على الأقل النظام في مصر يسمح للمعارضة بالعمل والاحتجاج، في حين أن غالبية الدول العربية لا تسمح لصوت آخر تحت أي صفة. وهنا سواء وجدت معارضة حقيقية، أو مزورة، أو لا معارضة، فإن الحكومات العربية تحتاج أن تدرك أنها عندما ترفض محاسبة المخالفين تصبح شريكا وهدفا لعامة الناس لا المعارضة فقط. خالد سعيد الذي يقال إنه مات من وحشية البوليس لم يكن معارضا، ولا شخصية معروفة، مجرد مواطن بسيط قاده حظه العاثر أن يقع في قبضة شرطي قاس. مثل هذه القضية أخطر على النظام من خلاف الانتخابات وقوانين الطوارئ وغيرهما، حيث سجلت المواقع الإلكترونية الاجتماعية نحو ربع مليون مهتم مصري غاضب، في حين أن أكبر مظاهرة سياسية في القاهرة لا تجتذب سوى بضع مئات.

وعندما يتذرع بعض السياسيين مشيرين إلى كثرة المخالفات في الأنظمة الغربية أو الديمقراطية الأخرى ينسون أن هذه الأنظمة تحاسب يوم الانتخاب، فتسقط، وإن طال زمنها لا يتجاوز عادة ثماني سنوات، في حين تجد حكومة تعيش عشرين عاما وفي الوقت نفسه ترفض محاسبة شرطي عندما يقتل مواطنا.

المعارضة المصرية اكتشفت أن رفع قضية الشاب القتيل أعطاها من الشعبية ما عجزت عنه في كل مطالباتها بالإصلاح السياسي، وأضعف صدقية النظام، وهذا سيجعلها تسعى وراء العناوين الأكثر شعبية، لا السياسية فقط.

[email protected]