قصر نفس مهني

TT

بحكم عملي، كثيرا ما تصلني رسائل إلكترونية ونشرات تتعلق بإصدارات تلفزيونية، وتحديدا أفلام وثائقية حديثة أو قيد الإعداد.. توقفت عند رسالة تفيد بأن جاين كوربن، المراسلة المتميزة في «بي بي سي» العالمية تُعد لفيلم وثائقي استقصائي عن حادثة «سفينة الحرية» (فلوتيلا)، التي وقعت قبالة شواطئ غزة، حين هاجم كوماندوز إسرائيلي سفينة تركية لناشطين ينقلون مساعدات إلى قطاع غزة.

ليس محور تركيزي في هذه الزاوية على الفيلم الذي لم يكتمل، ولم نره طبعا بعد، لكن حتما شدتني فكرة استقصاء صحافي حول قضية أثارت أزمة غير مسبوقة، لم تُطوَ ذيولها بعد، وتساءلت؛ ترى هل شاهدت مراسلة الـ«بي بي سي» احتفالاتنا التضامنية الصاخبة التي جرت، تحضيرا لسفن حرية جديدة، هدد مطلقوها بالثبور وعظائم الأمور إذا وقفت إسرائيل في وجههم؟! لربما صدّقت كوربن الكلام الكثير والصراخ الذي ضج في إعلامنا، مهددا بسفن حرية لا ينضب معينها..

لكن يبدو من النشرة التي قرأتها أن كوربن اكتفت باستقصاء في تركيا وفي إسرائيل.. لعلها أدركت أن ما جرى في إعلامنا، وعبر شاشاتنا وصحفنا، كان مجرد فقاعات لا أكثر..

ها هو الصمت يطبق مجددا..

كما لم نعلم لماذا صمت مطلقو حفلات التضامن مع سفن الحرية.. لا نعلم لماذا سكت عن الكلام المدافعون المفترضون عن حرية الرأي إزاء ما تعرضت له مسؤولة قسم الشرق الأوسط في «سي إن إن» أوكتافيا نصر، التي طُردت بعد أن كتبت على موقع «تويتر» بضع كلمات تتعاطف مع موت المرجع الشيعي اللبناني، السيد محمد حسين فضل الله..

كلام وصراخ ثم صمت مطبق..

باتت هذه حالنا مع قضايا كثيرة لا نتردد في تبنيها وابتذالها، ثم لا نلبث أن نعاود التزام الصمت، لكنه ذلك الصمت المريب الذي يستر عورات وفضائح، لا الصمت الباحث والمتقصي دونما افتعال..

لعل استنكافنا من المواظبة على متابعة قضايانا مرده إلى أكثر من سبب، منها طبعا قصر النفس المهني القاتل، ومنها اعتقادنا بأن التفاصيل اللاحقة قد تصيبنا على نحو ما تصيب الخصم والعدو.

نستنكف متابعة قضية «فلوتيلا»؛ لأن الأتراك باشروا ربما سياقا مختلفا من المفاوضة حول هذه القضية. ولا نكمل تضامننا مع أوكتافيا نصر، لأنها، وببساطة، قالت إنها لم تقصد الإساءة لأحد، إذ إننا كنا نريدها أن تسيء إلى خصومنا، بينما جوهر قضيتنا وقضيتها يتمثل في حقها في التعبير عن رأيها.

الـ«بي بي سي» تعدّ لفيلم استقصائي تعرض فيه صورا لم نرها من قبل، والسجال حول أوكتافيا نصر مستمر، ودخل عليه كُتّاب من حجم «توماس فريدمان» وغيرهم. في المقابل نحن الذين ندعي أن تلك هي قضايانا، أُصبنا بالخرس مجددا. دفعنا إلى ذلك قصر النفس المهني من جهة، وشعورنا باحتمالات وجه من الحقيقة قد تصيبنا بعض شظاياها، والأمران يعوقان قيام صحافة يعوّل عليها لمستقبل مختلف..

diana@ asharqalawsat.com