حروب لبنان السرية

TT

كان ثمة شيء مضحك في قضية الجاسوسية الروسية - الأميركية قبل أسبوعين: الجانب الروسي كان مختلفا على طريقة «المفتش كلوزو» في أفلام بيتر سيللرز: أدواته متخلفة، وطرقه قديمة، وتحركات الجواسيس معروفة سلفا لدى الـ«إف بي آي»، وإذا ما أكدت المسألة شيئا، فهي أن الحروب، خاصة الباردة، تنتهي، لكن هذه المهنة لا نهاية لها.

ليس من شيء مضحك في كشف شبكات التجسس الإسرائيلية في لبنان. الواقع أن عددها وحجمها وأهدافها، يجعلها بمثابة إعلان حرب. وما من أحد يدري إن كانت هذه نهاية الشبكات أم أن الكامن منها أكبر بكثير. وقد كان لبنان دائما «مفتوحا»، وكان في الماضي مرصدا تراقب منه أحداث الشرق الأوسط، ومن بيروت فر إلى الاتحاد السوفياتي كيم فيلبي، أشهر جواسيس القرن الماضي، وفي مرحلة ما كان لكل دولة جهازها في بيروت، وكانت هذه الأجهزة تراقب لبنان والشرق الأوسط ثم يراقب بعضها بعضا.

لكن ثمة ما طرأ على مهنة التجسس في العالم، وبالتالي في هذا البلد المشرع: الأقمار الصناعية، وأجهزة الاتصالات التي تحصي أنفاس الأثير وتفكك رموزه. وقد كانت بيروت في الأعوام الماضية مسرحا لاغتيالات سياسية بقيت جميعها من دون حلول، وانتهت كلها إلى مجموعة من القرارات الظنية التي يغيب فيها الفاعل ونائب الفاعل ولا يعرف إلا اسم الضحية وأسماء من كانوا مارين إلى جانبه لحظة الاغتيال.

في مثل هذا المناخ تشكل الأدوات التكنولوجية المتطورة عنصرا شديد الأهمية، وأحيانا العنصر الأهم. ولم تتسرب حتى الآن معلومات كثيرة عن اعترافات المعتقلين، ولا عرف إن كانت أقوالهم هي التي أدت إلى سلسلة الاعتقالات أم أنها تمت بناء على معلومات أخرى. لكن في بلد هو في أعلى حالات الحرب مع إسرائيل، تبدو المسألة أخطر بكثير مما ظن بادئ الأمر. وكان الإسرائيليون قد اغتالوا في دمشق القائد الرئيسي في حزب الله عماد مغنية، على الرغم من أن الأمن في سورية حالة شبه مغلقة تماما.

وقد تترك الاعترافات والاعتقالات انعكاسات على غير صعيد، وليس فقط على صعيد الصراع العلني والسري بين المقاومة وإسرائيل. وهي تشكل، بلا شك، أزمة للحكومة وبالذات لوزارة الاتصالات، خاصة بعد الكشف عن مركز للبث اللاسلكي إلى إسرائيل في جبل الباروك قبل نحو العام. ما هو معروف من هذه الأحداث يكفي لإخافة بلد خائف، فكيف إذا كان المجهول أكثر فظاعة؟ إن ما يسمى ثورة الاتصالات، سيف ذو حدين أو أكثر؛ فهو لا يسهل فقط مهمة التجسس، بل يعطي الأفضلية لمهمة المراقب، كما ثبت من الكشوفات اللبنانية، أو كما تبين من الكشوفات الأميركية، حيث لا يزال الروس مضحكين عندما تتعلق المسألة بالتكنولوجيا. إنهم أكثر حذاقة في الأساليب القديمة.