القضية والدورة الرمضانية

TT

ليس هناك تشبيه أفضل للحركة الدبلوماسية الدولية والعربية المحمومة حول قضية فلسطين من تشبيهها بدوري «الكرة الشراب» الذي يقام في شهر رمضان في أي من أحياء القاهرة المزدحمة، مثل شبرا، حيث ينشغل الحي أو المنطقة حتى أذنيه في دوري تافه، لكرة القدم المحلية.

زيارة بنيامين نتنياهو لـ«واشنطن»، وزيارة محمود عباس لـ«القاهرة»، والحركة المكوكية لجورج ميتشل، والدور التركي، والدور المصري، والدور السوري، والدور الإيراني، الكل يلبس «شورت وفانلة» ليلعب في دوري كرة شراب، لا جائزة له، لا كأس، ولا درع. مجرد اللعب لتسلية الصوم.

ومن لا يعرف الدورات الرمضانية للكرة الشراب في أحياء القاهرة، فهي دورات في كرة القدم بستة أو خمسة لاعبين، معظمهم من نجوم الحي، أو المنطقة، وقد يكون منهم ممثل في السينما، أو سياسي مهم.. إلخ. أي في الدورات الرمضانية قد يلعب رجال، مثل جمال وعلاء مبارك، وممثلون مثل محمود حميدة، ونجوم كرة قدم مثل أبو تريكة، وعماد متعب، بمعنى أن هذا الدوري للكرة الشراب لا يخلو من نجوم، لكن في النهاية هي دورة رمضانية، لا جوائز لها، ولا تتوج بشيء، سوى أنها سهرات للتسلية وقضاء الوقت.

وهكذا القضية الفلسطينية بوضعها الحالي اليوم، الكل يلعب، لكن بلا نتيجة، فما يحدث لا يهدف إلى التسوية، أو الوصول إلى السلام، مجرد العملية في عملية السلام، والعملية هي دورة رمضانية كل عام، نوع من اللعب السياسي، وجميع اللاعبين يعرفون أنهم «مش حيحلوا ولا يربطوا في القضية».

لاحظنا، منذ أوسلو في التسعينات، أي منذ عشرين عاما تقريبا، أن الولايات المتحدة، ودول الاتحاد الأوروبي، جميعها تصر على حل الدولتين، إسرائيل وفلسطين، وكان يقال لنا يومها إن الحل النهائي سيكون عام 98، ثم أجل إلى عام 2000، ونحن الآن في 2010، ولا حل هناك. مجرد حركة دبلوماسية من أجل الحركة، الكل «لابس وقالع وعرقان» أي يتصبب منه العرق في دوري كرة شراب في رمضان.. حتى الفلسطينيون أنفسهم، قرروا أن يلعبوا بأكثر من فريق، حماس والجهاد والشعبية والشمالية والجنوبية والشرقية والجبهة التقدمية والجبهة التأخرية جناح محمد نور، ولاّ دا السودان، دا دوري تاني. فرق كثيرة في المنطقة تتأهب للعب في دوري كرة شراب لا كأس، ولا درع فيه. ومع ذلك نحن نحب أن نكبر المواضيع.

بمناسبة تكبير المواضيع، كنت أقرأ، وللمرة الثانية، كتاب الرئيس الراحل أنور السادات المعنون بـ«البحث عن الذات»، وفيه، كان السادات يتحدث عن المندوب السامي البريطاني، ودوره في إدارة مصر كلها، وتهديد الملك فاروق، وفرض النحاس كرئيس للوزراء، ضد رغبة القصر. واستوقفتني الترجمة المصرية لرتبة الـ«هاي كومشنر» البريطانية (HighCommissioner) وهي المعادلة لكلمة سفير، ولكن الدول التي تخضع للتاج البريطاني لا يرسل إليها سفير ولا ترسل سفيرا إلى بريطانيا، ويسمى ممثلها بالـ«هاي كومشنر»، فمثلا، في مرات كثيرة وجدت نفسي على العشاء مع المندوب السامي الباكستاني والهندي والبنغالي لدى بريطانيا، فسفير الباكستان في بريطانيا يطلق عليه الـ«هاي كومشنر»، أو المندوب السامي، حسب الترجمة المصرية للقب. الحقيقة أن السيد كيلرن الذي كان موجودا في القاهرة في الأربعينات من القرن الفائت هو سفير وليس مندوبا ساميا، المندوب السامي ترجمة تثير الرهبة في أهل البلاد الأصليين، توحي بقوة خارقة غير موجودة، ومبالغة متعمدة في نوع من تكبير الأمور، تسعى إلى تضخيم العدو لكي تبدو مواجهته أو الفوز عليه بطولة خارقة. كذلك قال جمال عبد الناصر بعد هزيمة 1967، قال إنه كان يحارب أميركا، مع أن جيشا بقدرات جيشه الضعيفة في عام 1967 لم يكن يحتاج لا إلى أميركا، ولا حتى إلى إسرائيل، كي يُهزَم.

المبالغات العربية هي سبب كل المشاكل في تعاطينا مع الأمور السياسية. وهذا هو الحال في قضية فلسطين، فلماذا لا نسمي الأسماء بمسمياتها ونقول إن كل هذا الحراك الدبلوماسي حولها ما هو إلا دوري «كرة شراب» وليس كأس العالم التي لا بد أن تسفر عن نتائج وفوز وكأس للمنتصر. نحن يا جماعة أمام دوري «كرة شراب»، لا درع، ولا كأس، ولا سلام.. والسلام. أفيقوا.