عن أي وسطية تتحدثون؟

TT

وسط الصراع على احتكار الكلمات الجديدة، مثل «العولمة» و«المعلوماتية» و«الشفافية» و«الحوكمة» وغيرها، يشتد العراك الآن للحصول على حق الوكالة الحصرية والتمثيل المنفرد لكلمة «الوسطية». فالدعاة الجدد - القدامى يتغنون بها ذات اليمين وذات الشمال، والمقالات حافلة بتكرارها، وكذلك برامج الفضائيات في المحطات العامة والمحطات الدينية، تتغنى بها عن طريق ضيوفها المتخصصين في الشأن الديني، ولكن مسكينة «الوسطية»، فالكل يدعي حبها، والكل يدعي فهمه لها.

فكم من المتغنين بها كانوا من عتاة التطرف، وعلى النقيض من مفهوم الوسطية، وكم من معرِّف للوسطية بأسلوب فظ وغليظ وبمضمون مدمر ومفرق ومحرض، ولكنها بضاعة لا صاحب لها، ولذلك الكل يهجم عليها بدعوى ملكيتها، وخصوصا أنها السلعة الأكثر طلبا في «السوق» اليوم.

فهناك وسطية «إنما»، وهم الذين يتغنون بالوسطية حسب فهمهم، ويقولون «نحن» نمثل الوسطية «الحقيقية»، وكل الآخرين «إنما» هم منبطحون للغرب، مبتدعون مزندقون، وآخرون يقولون نحن الوسطية «إلا خمسة»، والمعنى هنا مختلف قليلا، بمعنى أننا لا نثق في «طرحهم» لمفهوم الوسطية، ولكن سنوسع صدرنا و«نتقرب» لفهمهم، ولكن ليس بكل وكامل إرادتهم، ولا بالفكرة ذاتها التي لديهم.

الصراع على الوسطية الآن بات باباً مفتوحاً على مصراعيه، وليس من ساحة توضح كل ذلك أكثر من الفضاء التلفزيوني والفضاء الإلكتروني. مشاريع مختلفة يتم تجنيدها وتوظيفها تحت غطاء الوسطية، فهناك البرامج السياسية الواضحة، والغاية منها تكوين القاعدة الشعبية المناسبة، وإغراؤها، وجذبها بالخطاب الديني والعبارات المصاحبة له، من آيات وسور وروايات وسير، وهناك من يستغل المناسبة لإعادة إطلاق نفسه بخطاب «جديد» أكثر قبولا وأعمق وأكثر اتساعا وشمولا، ليظهر بأنه الوجه الجديد والصوت المحسن وأيقونة الوسطية وشعارها، وفي كثير من الحالات تأتي الخطابات والرسائل الجديدة عن التسامح، من الشخصيات نفسها التي كانت تنادي بالعنف وبالمجتمعات الممزقة.

«الوسطية» المخطوفة دخلت الجامعات، واحتلت القضاء، وسيطرت على اللسان الديني في الإعلام، واليوم وصلت للبرلمان وتشكل الأحزاب والنقابات.

الوسطية لا يمكن أن تكون ضد الحوار، ولا يعقل أن تكون ضد التسامح، ولا يسمح بأن تكون في صف التفرقة العنصرية والتكفير، وخطاب الوسطية المختطف اليوم يطبق وينادي بكل ذلك بصور مباشرة وغير مباشرة.

يبدو أن الخلل الأساسي موجود لأن الحوار «داخل» العالم الإسلامي لم يكن صادقا وشفافا بالقدر الكافي للخلاص من «النفايات الفكرية»، التي نمت عبر الزمن لتكتسب مصداقية، وبالتالي قدسية لا يمكن المساس بها، وما هي إلا اجتهادات بشرية، ليس أكثر.

العالم الإسلامي بحاجة إلى أن يبحث داخل دفاتره وكتبه وأفكاره، وينقيها بلا حساسية ولا تحيز ولا تعصب، فالموضوع أصبح أكثر من الدفاع عن مواقع وعن أفكار وعن انتماءات شخصية أو جماعية.

الوسطية مفهوم أعمق وأشمل مما يُروَّج له اليوم، فالأمة الوسط مختطفة من أرباب التطرف وأصحاب التنطع وأولياء التشدد، وعلامات وأدلة ذلك تصرخ فينا ليلا ونهارا، وكل ما عليكم فعله للتأكد من ذلك هو متابعة ما يكتب ويقال بحق الفتاوى والآراء الدينية. عالم مرعب وحزين.

أنقذوا الوسطية من الدخلاء عليها، ووضحوها للعالم أولا بصدق وأمانة وجدية. الوسطية هي العنوان الأهم الذي تم اختطافه من الخطاب الديني اليوم، وحقيقتها لا علاقة لها بما يُروَّج باسمها.

[email protected]