برا وبحرا

TT

الاحتلال العربي الموسمي لمدينة «كان» لا يحتاج إلى أدلة. إذا فاتتك رؤية مظاهرة لن يفوتك سماعها. من أي غرفة نوم قريبة من «الكروازيت»، تعرف أنك هذه الليلة لن تنام. ولا غدا. ولا بعد غد. لأن عاصي الحلاني يغني على الشاطئ، أو فضل شاكر، أو من يقلد طبقات الصوت.

تتحول كان خلال شهري الصيف إلى قرية عالمية. أناس تحملهم سيارات الرولز رويس المكشوفة، وأناس يحملون كل شيء عدا السفر على ظهورهم العارية. فثمة مكان في «كان» لأي كان. والصيف حق الجميع. والشاطئ بعضه بمليون وبعضه بالمجان. جانب اليمين معرض ثياب وسيارات ووجوه مملحة بالشمس، وجانب اليسار رصيف تمشي عليه الأمم بما توافر من ألبسة، أو شيء من هذا القبيل. وفي عرض البحر عرض لليخوت والقوارب والأشرعة والصواري. الصيف قصير والناس تغرف العطلة من بر «كان» ومن بحرها. وإذا ما حل ليل المدينة امتلأ البر والبحر سفينا. لا. امتلأ بمقلّدي عاصي الحلاني وفضل شاكر. وتأتي الطبقات الصوتية عادة من صوب البحر. وتعرف ذلك من الارتجاجات.

تستعد «كان» بكل ما لديها للترحيب بالاحتلال الصيفي. هذه مدينة عرفت معنى الاحتلال الحقيقي. أولا الإيطاليون عام 1942، ثم الألمان عام 1943. لم يكن على الإيطاليين أكثر من أن يركبوا القطار ويأتوا بطريق مونتي كارلو. طبعا جاءوا وغنوا ونشروا موائد البيتزا والاسباغيتي. ثم جاء الألمان، بعيونهم الزرقاء وجزمهم اللماعة وقناعتهم المطلقة، ليس لأنهم شعب الله المختار، بل شعب الأرض الأكثر صفاء ونقاء وتفوقا. ولذا كان على الناس أن يصغروا. إذا منحوا شرف ذلك.

احتلت الجزم الألمانية أجمل مواقع المدينة. وجعلت فرقة «الصاعقة» من فندق «مارتينيز» وغرفة الـ150 مقرا لها. ووسعت السجون. ونشرت فرق الإعدام بالرصاص. وتحول هذا الخليج المتوسطي البهيج إلى جنازة وسجن ورعب. وتولى العملاء تسليم رجال المقاومة وفتياتها. وعندما بدأت قوات الحلفاء في عام 1944 بالوصول إلى مدن الشاطئ راح النازيون ينسفون جمالات «كان»: مقر القيادة في المرفأ، ومباني «البالم بيتش»! لكن تصاعدت أعمال المقاومة وراح رجالها يأسرون الألمان هذه المرة. كانت تلك أيام «كان» القاسية. في البداية كان يحق لكل فرد 250 غراما من اللحم كل أسبوع. ثم نقص ذلك إلى 250 غراما في الشهر. وأصبح ثمن كيلو الزيت 200 فرنك، أي الراتب الشهري للعامل. وانتشرت المجاعة. الاحتلال العربي ينشر الازدهار في «كان». هذه مدينة مترفة ومتخمة الآن. والليل يغني طوال الليل مع عاصي الحلاني وفضل شاكر. وعلى الأرصفة شحاذو أوروبا الشرقية يعزفون أغاني الغجر القديمة. والروس يشترون كل شيء، برا وبحرا. وتعرفهم من نسائهم. عرق متفوق في النساء مثل العرق الألماني في شعوب الأرض الآرية.