تناغم «الإنساني» و«الديني».. في شخصية الملك عبد العزيز

TT

«ليست المساواة بين الناس - عند الملك عبد العزيز - أمرا مصطنعا يحافَظ عليه بالقانون، ولكنه معنى طبيعي ناشئ من احترام الإنسان لإنسانيته واعتبار أن الناس جميعا من آدم، وآدم من تراب».. عبد الرحمن عزام باشا.

«الملك عبد العزيز مصلح مبدع مبتكر، وإنسانيّ لطيف مهذب».. كنت وليامز.

هذه نظرات ثاقبة، استجلت «المعدن الإنساني» الأصيل في شخصية الملك عبد العزيز، وحين يتركز البصر على «القيمة الإنسانية النبيلة» في شخصية متعددة المواهب والمقومات والخصائص والإنجازات - على كل مستوى - فإن هذا التركيز يدل على أن هذه القيمة ساطعة على نحو مكّن هؤلاء من التقاطها والتركيز عليها والتنويه بها.

ولئن لحظ عزام ووليامز - وغيرهما - هذه «الإنسانيات» عن بُعد في شخصية الملك الرائد، فإن الأمير سلمان بن عبد العزيز رآها ولمسها وعاشها عن قرب من حيث أنه ابن الملك عبد العزيز: تربى على يديه، وتتلمذ في مدرسته.. ورابعة جميلة وهي أن «ذاكرته» موسوعة حية لكل ما يتعلق بالملك عبد العزيز من سيرة ذاتية، ومن وقائع وحقائق الكفاح والبناء والتأسيس والوحدة والنهضة التنويرية الكبرى في جزيرة العرب في العصر الحديث.. وموسوعة حية لمعظم ما كُتب عن الملك عبد العزيز من مؤلفات وبحوث: باللغة العربية أو باللغات الأخرى.. ومن هنا، فإن الأمير سلمان حين تحدث في كتابه «ملامح إنسانية في سيرة الملك عبد العزيز» فإنما تحدث حديث الابن البار عن أبيه الصالح، والتلميذ النجيب عن أستاذه المربي القدوة، وحديث الخبير المبصر بتفاصيل سيرة زعيم كبير لم يشهد تاريخ العرب والمسلمين نظيرا له في التاريخ الحديث، وحديث المعجب المرهف الإحساس والشعور بـ«إنسانيات» الرائد المؤسس الإنسان.. ويبدو أن «البعد الإنساني» في شخصية الملك عبد العزيز قد ارتسم في ذهن الأمير سلمان منذ وقت مبكر، ولم يكن الكتاب الجديد إلا تأصيلا وتوثيقا لتلك الرؤية المبكرة.. فقبل 14 عاما - مثلا - أجرى التلفزيون السعودي حوارا موسعا معه بمناسبة مرور مائة عام على انطلاقة الملك عبد العزيز من الرياض: كقاعدة جغرافية وإدارية لإدارة الكفاح ومن ثم التأسيس والتوحيد والنهضة.. في ذلك الحوار تحدث سلمان بن عبد العزيز عن جوانب عديدة في شخصية الملك عبد العزيز، وكان من أبرز هذه الجوانب: «جانب إنسانيته الغامرة مع أبنائه».. يقول سلمان - يومئذ -: «وكان في الوقت نفسه يتعاطف ويتفكه معهم، ويرعاهم ويسأل عنهم، ويحنو عليهم إذا مرضوا، وعلى الرغم من أن مسؤولياته لا تعطيه الوقت الكافي فإنه كان يرعى أبناءه ويتفقدهم».

وانطلاقا من هذه «اللقطة الإنسانية»، تعالوا نتابع مشاهد ونماذج من الكتاب الممتع والمفيد: تربويا واجتماعيا وإنسانيا وسياسيا:

1) عن علاقة الملك عبد العزيز بأبيه «عبد الرحمن الفيصل» نقرأ في الكتاب: «ومن أدب الملك عبد العزيز مع والده وبره به أنه كان يساعده كثيرا على امتطاء صهوة جواده فيرفع قدميه بنفسه مع وجود مرافقيه كما ذكر ذلك أخي الأمير طلال بن عبد العزيز في كتابه «صور من حياة عبد العزيز».. ونقل لنا السيد عبد الحميد الخطيب في كتابه «الإمام العادل» ما شاهده حينما جاء الملك عبد العزيز واستقبل والده عند مدخل باب السلام في المسجد الحرام وحمله لكبر سنه ودخل به إلى مصلاه، ولم يشأ أن يتولى ذلك غيره».

2) مشهد تعامله الإنساني النبيل مع من ابتدر خصومته.. نقرأ في كتاب التلميذ سلمان عن أستاذه عبد العزيز: «يقول خير الدين الزركلي: إن الملك عبد العزيز ابتسم مرة في مجلسه، وكان في ضيافته الشيخ نوري الشعلان، شيخ قبائل الرولة العنزية، ففسر عبد العزيز ابتسامته للضيف قائلا: هل ترى هؤلاء الجالسين حولك يا أخ نوري؟. ما منهم أحد إلا حاربته وعاداني وواجهته. فرد الشيخ نوري قائلا: سيفك طويل يا طويل العمر. فأوضح عبد العزيز أن السبب لم يكن السيف فقط، ثم قال: إنما أحْـلَلْتهم المكانة التي لهم أيام سلطانهم. إنهم بين آل سعود كآل سعود»!.. ولا شك أن هذه مواقف تعبر عن قمة «الحصافة السياسية».. نعم.. نعم.

ولكن الجانب الإنساني فيها بالغ العمق والسطوع. وهو جانب أخلاقي رفيع أيضا يحوّل العداوة إلى حميمية: «وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ».

3) ومن مشاهد إنسانية المؤسس الرائد الإنسان: تحري مشكلات الناس الفقراء الضعفاء وهمومهم وحاجاتهم والمسارعة إلى تفريجها وحلها بخطط إنمائية ترفع مستواهم وتصون كرامتهم.. يقول سلمان: «امتدت إنسانية الملك عبد العزيز لتشمل الأيتام والعناية بهم. ففي سنة 1355 هـ، كما جاء في صحيفة «أم القرى»: وافق على إنشاء مدرسة دار الأيتام في مكة المكرمة، وكلف مهدي بك المصلح مدير الأمن العام برئاسة هيئة إدارتها، وعضوية كل من محمد سرور الصبان، والعقيد علي جميل، ومحمد شطا، وعبد الوهاب أشي، وعبد القادر أبو الخير. وكان يتفقد هذه الدار ويلاطف الساكنين فيها ليشعرهم بقيمتهم ومكانتهم، ويساعدهم ليعوضهم عن فقد والديهم، كما أسس عددا من مدارس ودور الأيتام واليتيمات في أنحاء المملكة».

4) بل اتسع أفق إنسانيته ورحمته ليشمل «الكائنات» غير الإنسانية.. تعالوا لنتأمل هذه اللقطة الحانية الجميلة التي أعاد تصويرها سلمان بن عبد العزيز في الكتاب الذي بين أيدينا: «يقول أمين الريحاني في «ملوك العرب»: كان الملك عبد العزيز يراقب قافلة أناخت بالقرب من مخيمه وكان بها جمل متعب فطلب صاحبه وأبلغه أن يترك الجمل يرعى ولا يعيده إلى القافلة رأفة به. وقال الملك للريحاني: العدل عندنا يبدأ بالإبل ومن لا ينصف بعيره يا حضرة لا ينصف الناس»!!

5) ومن خلال أنهار الإنسانيات، نفذ الأمير سلمان بن عبد العزيز إلى «السر الأكبر» أو الفلسفة الأعمق التي كانت وراء هذه الإنسانيات والإنجازات المتنوعة. هذه الفلسفة أو المنهج هو «صدق العقيدة والتدين» في شخصية الملك عبد العزيز. يقول سلمان: «إن أهم أسباب نجاح الملك عبد العزيز، تدينه الذي جعله مرتبطا بالخالق عز وجل عن معرفة ووعي».. وفي هذه العبارة يتجلى المفهوم الأساس في منهج الملك عبد العزيز: مفهوم «التآخي» الوثيق بين ما هو إنساني وما هو ديني.. فـ«التوحيد الخالص» هو أصل مبادئ الإسلام ومصدرها.. والتوحيد مرتبتان: مرتبة إخلاص العبادة لله وحده لا شريك له.. ومرتبة «الإحسان» إلى عباد الله. ومن ثم جمع النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - هذين الأمرين في سياق واحد، بل في حديث واحد هو «لا يشكر الله من لا يشكر الناس».. ومن مفاهيم هذا الحديث العظيم: أن من لم يحسن إلى الناس ويعاملهم بإنسانية صادقة، لم يكن صحيح التوحيد خالصه.. والعكس صحيح 100 في المائة.