اتفاقيات سجون العقول المشتركة

TT

تتكرر الندوات وتصدر الدراسات حول ظاهرة «سجون العقول العربية»؛ والمقصود بها العقول التي تتعامل في محيط اللغة العربية وفروعها، أي العرب والعرقيات الأخرى.

أهم ما تكتشفه هذه الندوات أن هذه السجون اختيارية وليست قهرية، يسقط عنها العذر الكلاسيكي بأنها مفروضة من نظم الحكم الأوتوقراطية. فأغلب منظمي هذه الندوات والدراسات من نزلاء هذه السجون، «بوعي أو بلا وعي». كما أن كثيرا من نزلاء هذه السجون يعيشون خارج منطقة القهر الشمولي الجغرافية، وبعضهم يحمل جنسيات بلدان أوروبا والأميركتين.

طبعا لا نعفي أنظمة عربية من مسؤولية نظم تعليم تتعمد استئصال غدد معينة من عقول التلاميذ. مثل غدد الاستكشاف خارج المنهج، أو التشكيك في معلومات «الأبلة» حتى تقديم الأدلة العلمية؛ أو غدد البحث عن مصادر أخرى.

هل وزارة الإعلام في البلاد العربية مسؤولة عن إبقاء عقل يقيم صاحبه في أميركا أو السويد أو هولندا لعقد من الزمان أو أكثر داخل زنزانة ضربت العناكب خيوطها حول مثيلتها العربية؟

خذ مثلا تعليقات بعض عرب أوروبا وأميركا هذا الأسبوع في مواقع صحف عربية على خبر عن لقاء في وزارة الخارجية البريطانية شرحه مكتبها الصحافي بأنه يهدف إلى تأكيد قوة ومتانة العلاقات البريطانية الخليجية وتوسيع التعاون معها.

السبب الوحيد هو وجود حكومة ائتلافية لأول مرة منذ 1975. اهتمامات وأولويات السياسة الخارجية ودور بريطانيا في حماية الأصدقاء والحلفاء في الخليج، كانت على طرفي النقيض ما بين حزبي المحافظين والديمقراطيين الأحرار.

الحزبان يكونان الآن حكومة ائتلافية واحدة فكيف تقرأ حكومات العالم الخارجي سياسة بريطانيا تجاهها. زعيم الديمقراطيين الأحرار نيكولاس كليغ، هو نائب رئيس الوزراء، وقف يمثل رئيس الحكومة ديفيد كاميرون في المساءلة الأسبوعية للحكومة الأربعاء في مجلس العموم، واتهم العمال، عندما كانوا في الحكومة، بجر الأمة إلى حرب «غير مشروعة» في العراق، فأسرعت مصادر الحكومة بإصدار تصريح رسمي بأن كليغ «عبر عن رأي شخصي تجاه حرب العراق ولا يعكس موقف الحكومة».

هذه التضاربات تقلق الحلفاء والخصوم، مما دفع بالحكومة الجديدة لتحديد المواقف وطمأنة الأطراف الخارجية. وإقليميا بلدان مجلس التعاون الخليجي من أهم حلفاء بريطانيا التاريخيين، ولذا فالاهتمام بإيصال المعلومة للصحف العربية احتل مرتبة الأولوية.

تعليقات عرب بلدان غربية، اتهمت بريطانيا بالتملق للخليجيين لمعاونتها في الخروج من الأزمة الاقتصادية، رغم أن جهود لندن وراءها حداثة العهد بالائتلاف الحكومي، سواء كان هناك أزمة اقتصادية أم لا.

مصدر هذه التعليقات نزلاء زنزانة «الاستعمار» التي اخترعتها الأنظمة الثورجية. (ولا تتساءل: ماذا عن البلدان التي استقلت بعد دول عربية أو متزامنة معها، واليوم تنافس أوروبا اقتصاديا وديمقراطيا؟).

تعليقات أخرى مصدرها زنزانة مجاورة «تتبع عنبر فلسطين» اسمها «وعد بلفور». وأبتهل إلى الله أن يصلني ولو تعليق واحد قرأ صاحبه الوعد (رسالة اللورد بلفور إلى اللورد روزتشيلد) «كاملة» مشتملة عبارة «شرط عدم المساس بحقوق سكان فلسطين» باللغة الأصلية (الإنجليزية) وترتيبها في سياق الرسائل المتبادلة منذ 1910 بين اللوردين ومع الأمير فيصل 1883 - 1933، زعيم الثورة العربية ضد الأتراك - وملك سورية ثم العراق - وبين فيصل ووايزمان عندما وعد الأول الأخير «بوطن لليهود في فلسطين ضمن المملكة العربية المتحدة الممتدة من المتوسط حتى الخليج»، أثناء لقائهما في باليرمو 1913.

ستجد زنزانة «التطبيع» في العنبر نفسه «بجوار زنزانة رفع الحصار عن غزة» الذي شيدته الأنظمة الثورجية الصامدة لتأجيل الإصلاحات (في الاقتصاد والتعليم والسياسة وحقوق إنسان) حتى الانتهاء من المعركة الفاصلة (عرفت لفترة بـ«أم المعارك») لتحرير فلسطين (وهي مثل وصول شخصية بيكيت الوهمية «غودو» لن تقع أبدا حتى لا تطالب الجماهير «الباسلة» بإنجاز ما تم تأجيله) ولم تقصد الأنظمة من تشييد عنبر فلسطين وزنزانة التطبيع فتح فروع في الغرب، لكن عقول عربية أوروبية ابتكرت زنازين «الغودووية» الاعتبارية لتسكنها طواعية.

في الأسبوع الماضي أدانتني تعليقات مثقفين عرب أوروبيين / أميركيين لأنني لم أعط الراحل محمد عودة (أبو داوود)، مدبر عملية ميونيخ (1972 التي انتهت بمصرع 23 شخصا)، سوى بضعة أسطر لم توفه حقه «كمناضل فلسطيني»؛ وأخرى انتقدته كسكير يتلقى الدعم المادي من إيران. المقال لم يكن تأبينا Obituary لعودة وإنما تعريفا بصفحة تعتبر مصدرا للمؤرخين كتقليد للصحف الأنجلوسكسونية لا تعرفه الصحف العربية، متمنيا لها البدء فيه. ولو كان نزلاء سجناء عنبر فلسطين استقلوا مركبة «غوغل» لكانوا قرأوا تأبين أبو داوود بالإنجليزية (1000 كلمة في «التلغراف» و926 في «الإندبندنت») مكتفيا بوثائق وشهود معاصريه بلا مدح أو ذم.

ويقودنا الاستقطاب إلى السجن الأكبر: «القبلية / العشيرة». حتى في دولة مركزية لم تعرف القبلية لآلاف السنين كمصر، اخترع مثقفوها القبائل الأيديولوجية: قبيلة الناصريين، بعشائرها القومجية والبعثية؛ وقبيلة الشيوعيين؛ وقبيلة الإخوانجية بعشائرها الإسلاموجية والجهادية والقاعدية والانتحارية.

وهناك اتفاقيات تبادل العقول المسجونة، واتفاقية السجن المشترك. فتجد الشيوعي والإخوانجي والقومجي مثلا ينتقلون إلى زنزانة تشملها اتفاقية السجن المشترك، كزنزانة التطبيع، أو زنزانة وعد بلفور، أو زنزانة الاستعمار باعتباره مسؤولا عن انتشار النشالين في الأوتوبيسات، وطفح المجاري، والغش في الامتحانات وميزان الخضراوات، وانشغال المدرسين بالدروس الخصوصية بدلا من تعليم التلاميذ في المدرسة، وضعف مستوى الطلاب في اللغات العالمية (مما يثبت إهمال الاستعمار الجسيم في تعليم لغاته).

الحكومات توفر ميزانية أجور الحراس ومأمور السجن وضباطه بترك سجون العقول بلا حراسة، والزنازين بلا أبواب.

إذا حاول الليبرالي الفرار صاح القومجية والشيوعيون بصوت رجل واحد «امسك، الخاين، السي آي إيه بتمول مركز أبحاثه» وينضم الإخوانجية صائحين «والكافر.. مراته سافرة».

والليبرالي يستغيث ببقية العقول «سيبوني أنا حر.. أنا ليبرالي». تصدقه؛ ألا تعني الليبرالية ترك حرية الاختيار للناس؟

وبمجرد أن يعلم بنشر كتاب لمثقف من قبيلة أخرى في إسرائيل أو لناشر يهودي في مكان آخر (حتى دون علم المؤلف) يصيح بدوره «امسك مطبعاتي» بينما يسير نائما نحو عنبر فلسطين.

الحكومات تكتفي بميزانية الوجبات على مدى 24 ساعة. النزلاء «عقول» والطعام وفير «ببلاش»: كلام أعيد تداوله (حفاظا على البيئة الثقافية الزنزانية) فهو من إنتاج المساجين أنفسهم من منابر حكومية كتلفزيون الدولة، أو صحف الزنازين الأخرى أو منابر «اسم على مسمى» بوفرة لا مثيل لها بفضل قبيلة الإخوانجية.

وفي انتظار تعليقات من خارج العنبر.