خيانة وعمالة

TT

كلمتان مترابطتان كالوسطى والإبهام في أدبياتنا السياسية - وبالذات «الثورجية» منها. لعله لا توجد كلمتان مترابطتان مثل ارتباط كلمة الخيانة بكلمة العمالة. والخيانة من «خون»، وهي كلمة متعددة المعاني بالعربية، ولا علاقة لها بالخان الذي استلفناه من الفارسية بمعنى دكان التي استلفناها من التركية أيضا. كما استعرنا «الخوان» من الفارسية بمعنى الصحن الكبير الذي يقدم عليه الطعام. ولعل اسم الكاتب والمؤرخ العراقي المعروف رشيد الخيون أخذ أصل اسمه من الخوان كناية عن كرم أجداده بني أسد لما كانوا يقدمون للضيوف من طعام على «خوان» كبيرة. الشاهد أنه لا شأن للخيانة بالضيافة ولا بالكرم، ولا ترتبط بالدكاكين والحانات - أو الخانات. فليس من معاني هذه الكلمة ما يسر القواميس، ومدلولاتها سيئة بكل المقاييس.

لكن العمالة من جذر لغوي طيب: عمل، والعميل تعني «الزبون»، فيقال فلان عميل بالبنك الفلاني، وفلان عميل دائم التردد، وهكذا. والعمل شيء طيب حث عليه القرآن الكريم «وقل اعملوا». بينما العمالة من «عمل». ومفهوم العمالة حديث نسبيا، فالعمالة تعني العمال في لغة أهل الخليج، ومفردها عامل، وجبل عامل في جنوب لبنان نسب لقبيلة عاملة بن سبأ اليمنية التي هاجرت وحلت فيه. وترادف العمالة «الشغيلة» في باقي اللهجات العربية.

لكن مدلول العمالة في أدبياتنا السياسية يقترن بمفاهيم الخيانة، ولا يقل سوءا عنها. والويل والثبور لمن يتهم بالخيانة والعمالة معا، ونادرا ما كان الواحد يتهم أحدا بإحدى هاتين الكبيرتين، فواحدة تجر الأخرى دوما.

ترى.. كم تعذّب إنسان في سجوننا العربية العتيدة باسم الخيانة والعمالة؟ وكم روح أزهقت على أعواد مشانق أنظمتنا بتهمة الخيانة والعمالة؟

تراشق بالخيانة والعمالة في الساحة اللبنانية لم يتوقف منذ بدء الأحزاب العربية، لكنه يشتد هذه الأيام بعد اكتشاف عملاء لإسرائيل، وخطاب تخوين حزب الله المثير للمحكمة الدولية الخاصة بالتحقيق في مقتل الحريري قبل أن توجه الاتهام لأحد! قالت العرب قديما: «كاد المريب يقول خذوني». وفي اللهجة الشامية «اللي على راسه بطحة يحسس عليها».

و«المعتدي على الضيفة» مثل في التراث البدوي الخليجي. وقصة هذا المثل أن ضيفة حلت على مضيف فقام بالواجب وتحضير العشاء لها، وخرجت في الظلام الدامس بعيدا عن بيوت الشَّعر لقضاء أمر ما، ولحق بها أحد الموجودين واعتدى عليها في الخلاء، ولم تتحقق من وجهه لشدة الظلام، وأخبرت المضيف الذي قدم العشاء وطلب من ضيوفه القيام لتناول عشائهم قائلا: «قوموا إلى عشائكم عدا ذاك الذي اعتدى على الضيفة». فقاموا جميعا سوى رجل واحد! فصارت مثلا، حيث يقال إن فلانا مثل الذي اعتدى على الضيفة.

المحكمة الدولية وافق على تشكيلها وإنشائها كل الأطراف اللبنانية، وتعاقب على رئاستها عدة قضاة، وتشيد معظم الأطراف بنزاهتها وحيادها، و«تخوين» حزب الله لها قبل أن تباشر توجيه الاتهام لأحد، أمر مثير للاستغراب، فماذا لو وجهت الاتهام لإسرائيل، وهذا وارد.. هل ستبقى المحكمة خائنة حتى بعد أن تتهم إسرائيل بالاغتيال؟

ارتبطت الخيانة بالأمانة بالحديث النبوي كإحدى آيات النفاق «إذا أؤتمن خان»، لكن الخيانة في عالمنا العربي منتشرة كالجراد في حقول بلا حراسة وبأشكال وأنواع كثيرة: خيانة زوجية وخيانة أمانة وخيانة وطن وخيانة عمل غير متقن وخيانة تعليم رديء وخيانة خدمات متردية، وخيانة عرقلة تشكيل حكومة بالعراق منذ مارس (آذار) الماضي، لأن فردا تهمه السلطة ولا يكترث للوطن وهكذا.

من معاني كلمة «عمل» السحر، ومن يدري، فقد تتوصل المحكمة إلى أن اغتيال الحريري تم «بعمل»، وكان العمل متقنا بلا خيانة أو عمالة!!