«كدابو» الزفة يفسدون فرحة الأطباء في غزة

TT

«كداب زفة» مصطلح شهير يستخدم مقترنا دائما بجملة أخرى هي «سيبك منه» أي تجاهله أو لا تكترث بما يفعل، فلا أهمية أو قيمة لما يفعله. فما هو الكذب في الزفة؟ وما هي الصفات الأساسية في «كداب الزفة»؟ وهل هو نوع من البشر عاجز عن ممارسة الكذب في غير الزفات وحفلات الزفاف؟ يعني هل هو نوع من الكذابين متخصص فقط في ممارسة عمله في المناسبات المفرحة؟ أم أن المناسبات المفرحة بطبيعتها تجلب بالضرورة عددا من الكذابين يشكلون خطرا على فرحة الناس الطبيعية؟ هذا ما سأحاول الإجابة عليه مع صعوبة ذلك لغياب المراجع في هذا المجال أو لندرتها.

في زفة العرس التقليدية ينشغل المدعوون بالفرحة فقط ما عدا هؤلاء الذين يعترضون اعتراضا هامسا على كل شيء في الفرح، ابتداء بالعريس الكئيب والعروس ثقيلة الدم، مرورا بالمطربين والمطربات وأصواتهم المزعجة، ثم أقارب العروسين وطريقتهم الهمجية في الهجوم على البوفيه الذي لا يستحق أصلا الهجوم. هؤلاء بالطبع معروفون تاريخيا باسم «عجائز الفرح»، وهم صادقون تماما مع أنفسهم ويعبرون بصدق عن كراهيتهم العميقة لتلك اللحظات التي يفرح فيها الآخرون. أما «كداب الزفة» فهو على العكس من ذلك تماما، هو صاحب حماس زائد للإعجاب بكل عناصر الزفة ويعمل على أن يكون جزءا أصيلا منها، غير أنك لو تفرغت لمراقبته ستكتشف على الفور أنه يمارس نشاطه بلا صدق داخلي. هو ليس في حقيقة الأمر فرحا، هو فقط يعاني من توتر شديد ناتج من عجزه أصلا عن الفرحة، صيحاته في الفرح، تشجيعه للمطرب ولفرقته الموسيقية، مديحه بصوت مرتفع لأهل العريس والعروسة، عدوانه بالشخط والنطر على العاملين في المكان. كل ذلك يحدث لكي يثبت لك أن له أهمية خاصة، غير أنه من المؤكد أن «كداب الزفة» لا يشكل خطرا أو يسبب ضيقا للمدعوين أو أصحاب الفرح، هو مجرد «كداب زفة» تستطيع تجاهله بسهولة.

غير أن الزفات ليست قاصرة على الأعراس فقط، ففي كل الميادين، وخصوصا السياسية منها، تحدث في كثير من الأحيان زفة احتفالا بأمر ما أو زعيم ما أو مناسبة ما، ويكون السؤال دائما هو: هل هذه الزفة مستحقة؟ هل هي احتفال بشيء حقيقي وصادق أم أنها كاذبة من صنع «كدابي الزفة»؟

في الأسبوع الماضي أعلن الأطباء المسؤولون في غزة عن تلقي الأدوية التي حملتها قوافل كسر الحصار عن غزة، وتوزيعها على المستشفيات، أعلنوا أن 70% من هذه الأدوية منتهي الصلاحية منذ شهور أو منذ أعوام، وأنهم أيضا تلقوا كمية من أقراص التاميفلو المخصصة للتحصين ضد مرض إنفلونزا الطيور الذي انتهى من المنطقة ومن العالم، يقدر ثمنها بثلاثة ملايين دولار (لست أذكر بدقة الرقم الذي أعلنه الطبيب المسؤول في غزة منير البوش على فضائية «الجزيرة»، هل هو ثلاثة أم ثلاثون مليونا)، أما أجهزة غسيل الكلى فقد انتهت مدة صلاحيتها الافتراضية، هي لا تصلح لشيء، ثم هدية أخرى أرسلتها دولة عربية وصفوها بأنها «مستهجنة». ماذا كانت الهدية؟ كفن.. أعزك الله. نعم، قماش أكفان أبيض.. وقصير، طول الكفن 125 سم، ترى هل عرف التاريخ من قبل هدية أكثر دلالة على فساد الذوق؟

ويضيف الأطباء: لقد أبلغناهم بأسماء 125 نوعا من الدواء رصيدها صفر في كل مستشفياتنا، غير أنهم لم يأتوا لنا بشيء منها. مشكلتنا الآن هي البحث عن مكبات لإلقاء هذه الشحنات الفاسدة أو دفنها فيها، لا بد من التخلص منها بطريقة آمنة وإلا كانت مصدرا للخطر على الناس وعلى البيئة.

إلى هنا انتهت كلمات الأطباء في غزة، وأنا أتصور أنهم بذلوا مجهودا كبيرا لمنع أنفسهم من التعليق على ما حدث بالكلمات المناسبة، غير أنني لا بد أن أسجل لهم شجاعتهم في إعلان حقيقة ما حدث حتى لو أخفوا أسماء الجهات التي قدمت الأكفان والأجهزة غير الصالحة والأدوية منتهية الصلاحية والأدوية التي لم يعد أحد في حاجة إليها. 70% من الأدوية التي وصلت إلى الناس في غزة منتهية الصلاحية. لو أن زجاجة دواء واحدة منتهية الصلاحية ضبطت في صيدلية عربية لتم تحويل صاحبها إلى النيابة على الفور.

القصة حتى الآن لم تتم فصولها، وعلى الأطباء في غزة أن يعلنوا للعالم كله من هم هؤلاء الذين أرسلوا التاميفلو الذي لم يعد أحد في حاجة إليه، وما هي الدولة العربية التي أرسلت الأكفان، ومن أرسل الأجهزة التي انتهى عمرها الافتراضي. لا بد أن نعرف من تبرع لمن ومن اشتري ممن ومن قبض ممن ثمن هذا التاميفلو لكي يتم إرساله إلى أهل غزة.. أما زلتم تصرون على أنكم كنتم تريدون مساعدة أهل غزة وفك الحصار عنهم؟

مع الأكاذيب لا بد أن تفوح بقوة رائحة الفساد، كانت قوافل لا تخلو من أصحاب النوايا الحسنة، غير أن «كدابي الزفة» تمكنوا من تحويلها إلى كذبة كبرى ضارة، ليس كسر الحصار عن غزة فقط هو المطلوب، المطلوب هو رفعه عن الفلسطينيين جميعا. وهذا لن يحدث في ظل وضع يحكم الفلسطينيون فيه بحكومتين متحاربتين. اتصور أن إعلان أطباء غزة عن هذه الكارثة المخجلة هو رسالة إلى عدد كبير من المتاجرين بالقضية الفلسطينية. يقولون لهم فيها: أيها السادة.. كفوا عن مساعدتنا.. كفوا عن محاولاتكم رفع الحصار عنا.. احترموا الأمنا..

من قواعد البريد في العالم كله أن تعاد الرسالة إلى مرسلها في حال عدم الاستدلال على عنوان المرسل إليه أو عند رفضه تسلم الرسالة. وهذا بالضبط ما أطالب به الجهات المعنية ذات الصلة، كل ما هو غير صالح للاستخدام من أجهزة وأدوية، على غزة أن تعيده للمرسِل، بالتأكيد هناك طرق قانونية لتنفيذ ذلك. ولا أعتقد أن مصر سترفض خروج هذه الأدوية والأجهزة والأكفان من معبر رفح لتأخذ طريقها لبلد المنشأ.

قضية فلسطين هي قضية تحرر وطني، والعمل السياسي الجاد وحده هو الكفيل بتحرير فلسطين وإقامة دولة حرة، أما هذا النوع من النشاطات الاستعراضية فهو يفسد السياسة بالضبط كما أفسد فرحة الأطباء في غزة بالأدوية والأكفان التي أرسلت إليهم.

إن أسوأ أنواع النشاط الإنساني هو تلك العروض المسرحية التي تتم بعيدا عن المسرح، لأنها تلتزم بقواعد المسرح فقط، وهو الإيهام، عندما أعرض عليك أدوية على خشبة المسرح، لا ضرورة هناك لكي تكون حقيقية أو صالحة للاستخدام، هي مجرد إكسسوار، أما في الحياة فهذا هو الفعل الذي نسميه.. جريمة.