يحيا المنصب!

TT

الجري وراء المناصب ظاهرة طالما اشتكينا منها واعتبرناها من آفات دنيا العالم العربي. تفاقمت مؤخرا فأصبحت شاغل القوم في العراق بحيث تعذر عليهم كليا تشكيل أي حكومة جديدة بسبب العراك على المناصب، فشاع شعار «العركة على تقسيم الكعكة» بين الناس المحرومين من الكعكة.

ومع ذلك فهي ظاهرة عالمية يمكننا أن نعتبرها جزءا من سعي الإنسان للكسب والتقدم والتملك وإثبات جدارته لنفسه وذويه. إنها في الواقع امتداد لغريزة بقاء النوع. كل هذه الضجات التي نسمع بها على هامش المعارك الانتخابية في العالم ما هي في الواقع غير «عركات» على المناصب. وأكثر من ذلك، أن الأحزاب المتنافسة لا تتردد في تغيير برامجها وتتخلى عن مبادئها لمجرد أن تضمن الفوز في الانتخابات، أي كراسي الحكم. ويظهر رجالهم من الأسى والغيظ عند فشلهم بالفوز ما تظهره نساؤنا عندما يقصر رجالنا في إغراقهن بالماس واللؤلؤ. وكان ذلك بالضبط ما أبداه تشرشل عندما لم يختره لويد جورج وزيرا عنده، خلال الحرب العظمى، حسب رواية اللورد بيفربروك في كتابه «الساسة والحرب». قال إن لويد جورج كلفه بنقل اعتذاره لتشرشل وتبليغه قرار استبعاده بأسلوب لبق. كتب في مذكراته قائلا:

«هكذا عدت وذهبت لحفلة اللورد بيركنهد وفي جيبي قرار لويد جورج. ابتسمت لتشرشل على نحو ما يفعل سياسي أقدم نحو زميل طموح أصغر منه سنا. ومع ذلك مشيت باضطراب، ولكنني سرت في طريقي. كان لتشرشل ما يدعوه للاعتقاد بأنه سينال منصبا عاليا بالتأكيد. تباحثنا كحلفاء في شخصيات الحكومة الجديدة (1916). قال تشرشل: (إنهم ربما يعطونني وزارة البريد. وهو منصب يناسب قدراتي).

ثم لوحت له بطرف خفي ما كلفني به لويد جورج. وأعتقد أن هذه كانت كلماتي له بالضبط: (ستتخذ الحكومة الجديدة موقفا وديا تجاهك. سيكون جميع أصدقائك فيها. وسيكون أمامك ميدان كبير للتعاون معهم في مهام مشتركة).

كان هناك شيء في اختيار كلماتي برقة متناهية ما لبث أن تحول في ذهن تشرشل إلى يقين. شعر بأنهم خدعوه بدعوته إلى تناول العشاء. فانفجر بغضب ثائرا على انتهاك كرامته. أنا لم أسمعه طوال حياتي يتكلم مع صديقه الحميم اللورد بركنهد بغير اسمه الأليف (فريد). وأحيانا يكتفي بحرفي إف إي. ولكنه في هذه المناسبة، انفجر فجأة فخاطبه بهذه الكلمات: (سمث! هذا الرجل هنا يعلم بأنني لن أكون ضمن الوزارة الجديدة!).

وبهذه الكلمات، اندفع خارجا من الحفل وتوارى في الشارع».

ولا شك ليجري مسرعا نحو طبيبه الخاص ليطلب منه وصفة أخرى لحبوب مقاومة الاكتئاب (الكلب الأسود كما كان يسميه) الذي كان يعاني منه تشرشل كلما أبعدوه عن الحكم.