الذين يتاجرون بالدعوة

TT

أثناء رئاستي لتحرير إحدى المطبوعات، رغبت في استكتاب أحد الدعاة العرب الذين شكلوا حضورا لافتا لدى شريحة واسعة من الشباب، عبر إطلالاته المتكررة على شاشات الفضائيات، وما يبدو عليه من سماحة، واعتدال، وزهد، فاتصلت به، وليتني لم أتصل، فلقد أحالني الرجل بذكاء، أو دهاء إلى سكرتيره، أو مدير مكتبه، أو بوصف أكثر دقة «سمساره»، الذي راح يلف، ويدور، ويتحدث عن المسؤوليات والأعمال الخيرية التي يقوم بها الداعية، وكل ذلك لم يكن سوى مقدمة «فهلوية» لرفع مكافأة استكتابه، التي قدرها السمسار على نحو لم يبلغه كاتب عربي، منذ بدء الصحافة العربية حتى اللحظة، وكانت طريقته في الطلب مستفزة ومقززة إلى الدرجة التي جعلتني أزهد في الرجل، والسكرتير، والكتابة. ومنذ ذلك اليوم البعيد، وأنا ألوذ بـ«الريموت كنترول» للهرب من ذلك الداعية في كل مرة يطل فيها من شاشة إحدى القنوات.

ذكرني خبر نشرته صحيفة «الرياض» السعودية، في عدد الخميس الماضي بتلك الحادثة، فالخبر جاء بعنوان «ارتفاع أسعار الدعاة يحرج منظمي المهرجانات السياحية»، ويتضمن الخبر أن أحد الدعاة حدد مبلغ 60 ألف ريال للمشاركة، لمدة ساعتين، وأن ارتفاع تكلفة الدعاة أدى إلى إلغاء بعض الفعاليات في مدينة أبها. هذا الخبر جعلني أترحم على دعاة كانوا يقطعون الفيافي والقفار لتثقيف الناس، لا يبتغون من وراء عملهم سوى مرضاة الله، وأقف احتراما لدعاة أحياء يسيرون على نهج أولئك السلف ابتغاء الأجر والمثوبة.

أنا لا أنكر على الداعية أن يتقاضى مكافأة أو أجرا نظير محاضرة أو مشاركة، تتطلب منه سفرا، وجهدا، وتحضيرا، ولكن ينبغي أن يراعي في تحديدها طبيعة الغاية، وسموها، وأن يستهدف الأجر من بعض جهده، وعمله، وسعيه، فليس أصعب من اقتران الدعوة باشتراطات مادية تذهب بالكثير من نبل غاياتها.

وليت علماءنا الكبار يتقصون هذه المسألة إن وجدت لمناصحة أولئك «البعض»، وإخراج ساحة الدعوة من هذا المأزق، الذي يحاول هؤلاء جرها إليه، لتظل صورة الداعية - كما اعتدنا - مثالا، ونموذجا، وقدوة، واستمرارا للصورة المشرقة التي عليها الدعاة الحقيقيون منذ فجر الإسلام، وحتى يومنا هذا.

وكل ما يمكن أن نقوله لأنفسنا في مواجهة هذه «القلة» من الدعاة الذين يستثمرون الدعوة ماديا على ذلك النحو: «عش رجبا تر عجبا».

[email protected]