على واشنطن التخطيط بحرص للتعاون مع موسكو

TT

يبدو أن مشروع القانون المطروح حاليا على مكتب الرئيس الروسي ديمتري ميدفيديف وينص على توسيع سلطات الوكالة الاستخباراتية التي خلفت «كيه جي بي»، يؤكد صدق أسوأ مخاوفنا حيال التطور السياسي في روسيا؛ إلا أن قصة وصوله لمكتب الرئيس تكشف أن فصول التحول السياسي الروسي لم تكتمل بعد وتذكرنا جميعا بأن هناك دورا على الولايات المتحدة القيام به في صياغة هذا التحول.

من شأن القانون المقترح منح «خدمة الأمن الفيدرالية» سلطة إصدار تحذيرات لأفراد يأتون بتصرفات، على الرغم من كونها قانونية، «تخلق ظروفا مواتية للجريمة».

في رد فعلهم، ندد نشطاء حقوق الإنسان وجماعات المعارضة بالتشريع، معربين عن مخاوف حيال استغلاله على نحو استباقي لتكميم أفواه خصوم الحكومة السياسيين. وأشارت «ميموريال»، أبرز المنظمات الروسية الحقوقية، إلى التشابهات القائمة بين مشروع القانون ومرسوم صدر عام 1972 سمح لـ«كيه جي بي» بتحذير المواطنين من التورط في «نشاطات مناهضة للاشتراكية تتعارض مع أمن الاتحاد السوفياتي»، حتى وإن كانت تلك النشاطات لا تنتهك القانون. وجرى استغلال هذه التحذيرات في ترهيب المنشقين السوفيات.

ويبدو من غير المحتمل أن يرفض ميدفيديف مشروع القانون، بالنظر إلى أن الفضل نسب إليه في اقتراحه من الأساس، الأمر الذي يحطم الآمال المغلوطة التي رأت فيه نموذجا ليبراليا بديلا لرئيس الوزراء فلاديمير بوتين، اللفتنانت كولونيل السابق بصفوف «كيه جي بي». والتساؤل الآن: هل يمثل هذا القانون مسمارا جديدا في نعش الديمقراطية الروسية؟

ربما. لكن ليست هذه مجمل فصول القصة، فرغم سوئه، كان من الممكن أن يأتي مشروع القانون في صورة أسوأ بكثير. خلال العملية التشريعية، نجحت الجماعات الحقوقية في إلغاء بنود تسمح لـ«خدمة الأمن الفيدرالية» بنشر تحذيراتها واستدعاء أفراد لتسلم التحذيرات الموجهة إليهم وفرض عقوبات تصل إلى الحبس 15 يوما حال رفض تسلم التحذير. كما جرى دمج آلية للاستئناف ضد التحذيرات في مشروع القانون.

وتكشف هذه التعديلات أنه على الرغم من اعوجاجها، لا تزال هناك حياة سياسية في روسيا، وأن المجتمع المدني، على الرغم من ما يعانيه من تهميش، لا يزال يضطلع بدور في الحياة العامة. وعلى الرغم من أن روسيا بعيدة تماما عن كونها نظاما ديمقراطيا كاملا، فإنها لم تعد نظاما استبداديا يقوم على هيمنة الحزب الواحد.

أما التحدي القائم أمام الولايات المتحدة، فهو كيفية تعزيز تلك التوجهات التي يمكنها دفع روسيا نحو نظام سياسي أكثر انفتاحا، مع التصدي لمن قد يحاولون جر البلاد في الاتجاه المعاكس.

يرى البعض أن تحرك إدارة أوباما نحو توسيع نطاق التعاون بين الحكومتين بصورة كبيرة بشأن القضايا التي تعتبرها تحديات عالمية كبرى، مثل منع انتشار المواد النووية وتحقيق الاستقرار بأفغانستان - يزيد الأوضاع سوءا، حيث يعتقدون أن التعاون يحمل إقرارا ضمنيا للقيود التي يفرضها الكرملين على الحريات الداخلية ويمكن حكومة معادية بشدة لهذه الحريات.

بيد أنه حال تنفيذ هذا التعاون على النحو الصائب، من الممكن أن يشكل التعاون مع موسكو عاملا مهما في التأثير على التطور السياسي الروسي على نحو إيجابي.

أولا: من شأن تحسن العلاقات تعزيز فرص تعبير واشنطن عن مخاوفها إزاء ما يجري في روسيا من دون تحول الأمر إلى أزمة بين الجانبين. وقد كشف العقد الماضي أن المناخ العدائي السائد بين الجانبين جعل من المستحيل عقد مثل تلك النقاشات. أما ما إذا كانت النقاشات ستثمر تغييرا ملموسا فتلك قضية مختلفة، لكن يبقى من الجيد عقد النقاشات، خاصة عندما يكون البديل - النزاع المعلن - مصدرا لمزيد من التراجع، وليس التقدم.

ثانيا: يقوض التعاون نموذج التطور القائم على فكرة «روسيا المتمترسة» الذي يربط بصورة وثيقة المواجهة مع واشنطن بفرض قيود سياسية أقوى والاقتصاد المنغلق وفرض الهيمنة على منطقة وجود الاتحاد السوفياتي السابق. كما يحرم التعاون الكرملين من الفزاعة التي يستغلها لتبرير تحوله بعيدا عن السياسات المفتوحة، وهي أن الغرب العدو على الأبواب.

مع اختفاء هذا «البعبع»، ستفتقر الاتهامات الموجهة لأي منظمة غير حكومية تتلقى تمويلا غربيا بأنها جزء من «طابور خامس» - إلى مصداقيتها، وكذلك مكافئة السياسات الموالية للغرب بالخيانة. إن التعاون يخلق مساحة لتلك المنظمات للعمل على الصعيد الداخلي، علاوة على أنه يعزز تعرف المواطنين الروس على الولايات المتحدة ونظامها السياسي، عبر السفر المتزايد أو التجارة أو التغطية الإيجابية في نشرات الأخبار التلفزيونية (الخاضعة لرقابة شديدة لكن تحظى بمشاهدة واسعة).

وأخيرا: من شأن التعاون الحكومي الناجح، بمرور الوقت، زيادة تكاليف التصرفات التي يمكن أن يقدم عليها الكرملين لتقويض الروابط بين البلدين. إذا ما كان أمام موسكو ما تخسره، فإنها قد تفكر مليا (أو على الأقل يتوافر لديها حافز أكبر للقيام بذلك) قبل الإقدام على هذه الخطوة.

ومع ذلك، فإن التعاون النشط مع الحكومة الروسية لا يعني تجاهل القضايا العسيرة ويجب تكميله بالتعاون المباشر مع المجتمع. على هذا الصعيد، تعلن إدارة أوباما وجهات نظر سديدة وتحاول تنفيذ أفكار جديدة، مثل عقد مؤتمرات مع منظمات المجتمع المدني بالتوازي مع اجتماعات القمة الرئاسية، لكن لا تزال بحاجة لبذل مزيد من الجهود في هذا الشأن.

إلا أنه حتى لو جاء أداء واشنطن مثاليا، فإن تأثير تصرفاتها لن يكون جليا، وستحتاج النتائج، حال تحققها، إلى فترة زمنية طويلة للظهور. إن التعاون يستلزم التحلي بالصبر، الأمر الذي لا تزال واشنطن تبدو عاجزة عنه. لكن إذا ما رغبنا في الإسهام في تطور روسيا على نحو يقلص القوانين القمعية، على غرار ذلك الذي يوشك ميدفيديف على توقيعه، ويعزز الحراك المدني في العملية التشريعية، على غرار تدخل المنظمات غير الحكومية في التخفيف من وطأة مشروع القانون الجديد - فليس أمامنا خيار آخر.

* زميل برنامج الأمن القومي والسياسات الدولية التابع لمركز التقدم الأميركي.

* خدمة «واشنطن بوست»