«تخفيف» و«تقليل» و«تخفيض» برسم العالم الحر!!

TT

حين اشتدت الحملة الدولية لإدانة الجريمة التي ارتكبتها إسرائيل بسفك دماء نشطاء أسطول الحرية العزل من السلاح، الذين كانوا يحاولون إيصال الغذاء والدواء إلى المدنيين المحاصرين في غزة، بعد أن فشل المجتمع الدولي في رفع الحصار الإسرائيلي الوحشي المفروض على المدنيين في قطاع غزة، ابتدعت حكومة نتنياهو لغة جديدة تستخدم عبارات مثل «نيتها بتخفيف» الحصار عن قطاع غزة، وها هي مسؤولة الاتحاد الأوروبي كاترين أشتون تزور غزة الأسبوع الماضي وتعلن للعالم أنها لم تر أثرا لتخفيف الحصار عن غزة. وتعلن باسم الاتحاد الأوروبي أن إبقاء الحصار على مليون ونصف المليون مدني فلسطيني «أمر غير مقبول». ولكن تبقى هذه التصريحات في المجال الإعلامي دون أن تترجم لخطة عمل أو عقوبات ترغم حكومة نتنياهو المتطرفة على رفع هذا الحصار. وها هو الكيان الإسرائيلي ذاته، وبعد أشهر على صدور تقرير غولدستون، ومرور أشهر على طلب الأمم المتحدة من إسرائيل الإجابة على هذا التقرير، «يتعهد» للأمم المتحدة «بتقليل الإصابات بين المدنيين.. وتخفيض استخدام «الفسفورية»، أي أن حكومة نتنياهو تؤكد استمرارها باستهداف المدنيين الفلسطينيين، وتؤكد كذلك على استمرارها باستخدام الأسلحة المحرمة دوليا ضد المدنيين ومنها الأسلحة الفسفورية.

وتقوم إسرائيل في اليوم ذاته بهدم منازل ومحال تجارية فلسطينية وإبعاد مئات الفلسطينيين من فلسطين المحتلة عام 1948 إلى الضفة تنفيذا لسياسة الترانسفير (التهجير) العنصرية التي أعلنتها، كما ستقوم ببناء جدار عازل مع مصر الأسبوع المقبل. في الحين ذاته سوف يصل وزير الدفاع الإسرائيلي إلى واشنطن قريبا لمواصلة بحث التعاون الثنائي وشروط استئناف المفاوضات. وبعبارات أخرى فإن باراك، المدان بارتكاب جرائم حرب ضد المدنيين في جنوب لبنان وغزة، سوف يطلب من المسؤولين الأميركيين تقديم المزيد من الدعم المالي والعسكري والسياسي والدبلوماسي من أجل الاستمرار في تنفيذ سياسات الحصار والهدم والقمع والتجويع والترانسفير ضد المدنيين الفلسطينيين. ومع استمرار التغطية الإعلامية المطلوبة من قبل وسائل الإعلام الأميركية الموالية لسياسات القمع الإسرائيلية كي تمر هذه السياسات وتبقى صورة الكيان الصهيوني، كما قال بايدن: «واحة الحرية في الشرق الأوسط»!

ماذا يعني «تقليل» الإصابات بين المدنيين؟ يعني أن قتل بعضهم ممكن ولكن على ألا يثير العدد ضجة تقلق راحة إسرائيل أو تسبب لها أو لحلفائها حرجا دبلوماسيا، كما أن استخدام الفسفور الأبيض ضد المدنيين قد يكون «ضروريا» من أجل ترويعهم ولكن مع استخدامه «بحكمة» و«بحذر»، وربما بطريقة لا يمكن لأحد أن يتحقق من آثاره كما فعل غولدستون.

أي أن الهدف ليس حماية المدنيين والاعتراف بقدسية حياة المدنيين الفلسطينيين، بل الهدف هو سحب الأدلة الجنائية من أيدي رجال شرفاء، أمثال غولدستون يمكن أن يستخدموها في المستقبل ليكشفوا من خلالها حقيقة الجرائم التي ترتكبها حكومة إسرائيل وجيشها ضد المدنيين وتلاحقهم لتقديمهم للعدالة الدولية.

إن قبول الحكومات الغربية، وقبول آلتها الإعلامية، بكيان يفرض حصارا وحشيا على مليون ونصف المليون مدني فلسطيني أمر مثير للدهشة، خاصة وهي التي تدعي دفاعها عن «حقوق الإنسان» ودعم قضايا العدالة والحرية والديمقراطية. وكذلك يندهش المرء من دعوة الأمم المتحدة هذا الكيان أن يوقف هدم منازل الفلسطينيين، بينما يستمر هذا الكيان، ومنذ سنوات، بخططه في تهويد مدينة القدس وهدم أجمل ما أنتجته يد الإنسان من عمارة في حي الجراح وحي السلوان، دون اتخاذ المنظمة الدولية أي إجراء عقابي كما تفعل مع غيره من الأنظمة. هذا التناقض وازدواجية المعايير، أمر يفضح زيف ادعاءات الديمقراطيات الغربية بدعم حقوق الإنسان وبإيمانها بحكم القانون، حيث نشهد كل يوم اعتقال فلسطينيين يحتجون احتجاجا سلميا على هدم منازلهم وتحويلهم إلى لاجئين!! إن قبول عبارات «التخفيف» و«التقليل» و«التخفيض» يعني عدم احترام حياة الفلسطيني وعدم اعتبار معاناته وآلامه مساوية لمعاناة وآلام إنسان غربي، وإلا فلماذا فشلت كل هيئات حقوق الإنسان، والأمم المتحدة، والولايات المتحدة، وأوروبا في فرض عقوبات على إسرائيل جراء كل هذه الجرائم التي ترتكبها ضد المدنيين العزل، بينما يفرضون عقوبات على بلدان عدة لاشتباههم بنوايا هذه البلدان تطوير أسلحة وخوفهم من كيفية استخدام هذه الأسلحة «في حال حصلت عليها»؟!

وتذهب مصداقية البيت الأبيض الأميركي حول دعمه للسلام في الشرق الأوسط أدراج الرياح، عندما يفاخر مسؤول في هذا البيت العريق في دعم الدكتاتوريات، بأن الولايات المتحدة تدعم إسرائيل بقيمة 4 مليارات دولار لتسليحها بأحدث الأسلحة الفتاكة، بما فيها برنامجها النووي، بينما تنفق ثلاثة مليارات دولار فقط على أكثر من سبعين دولة أخرى!!

لسنا بحاجة لأن نفسر النوايا هنا، لأن إسرائيل برهنت خلال الستين عاما الماضية أنها تستخدم هذا السلاح الأميركي لإبادة شعب فلسطين، ولقمع حقه في الحرية، والاستيلاء على أرضه ومياهه ومصادرة مستقبله. فلماذا يكون تسليح إسرائيل مدعاة للفخر، بينما محاولة البعض حيازة السلاح للدفاع عن نفسه يستوجب اتهامه بالإرهاب؟ أي عالم نعيش فيه اليوم وأي منطق تستخدمه الدول الغربية التي تدعي حرصها على «الديمقراطية» و«حقوق الإنسان»؟! كل ما يمكن للغرب أن يفعله هو الضغط على الطرف الضعيف والتحضير لعقوبات على إيران، وحث تشاد على اعتقال الرئيس البشير، ومطالبة «آسيان» بمقاطعة كوريا الشمالية، والضغط على الفلسطينيين للتخلي عن حقهم في الحرية والعدالة، وكأن البوليس الدولي يضع الكرة الأرضية أمامه ليختار من يستحق العقوبة، ومن يستحق العزل، لأسباب لا علاقة لها بالحق ولا بالعدالة ولا حتى بقدسية حياة الإنسان وحريته وكرامته. وإلا فكيف يقبل البلد الذي بني على فكرة الحرية فرض الحصار الوحشي على مليون ونصف المليون إنسان للسنة الرابعة على التوالي دون أن يحرك ساكنا يمكن أن يساعد على تحريرهم من هذا الأسر الإسرائيلي البغيض؟!

لقد أصبحت حقيقة إسرائيل واضحة للقاصي والداني، وأصبح واضحا للجميع أنه حتى «التخفيف» من الحصار لا يخطر لحكومتها المتطرفة ببال، إلا في أعقاب حملة دولية قام بها أصحاب ضمائر حرة رفضوا إدارة ظهورهم لإخوة لهم في الإنسانية يقعون في قبضة أسر بغيض. إذن لماذا لا يتم التحرك أو تطبيق بعض المعايير التي تطبق على آخرين لم يرتكبوا جريمة أو إثما على هذا الكيان؟ هذا السؤال يسأله سيث فريدمان في جريدة «الغارديان» البريطانية في مقال بتاريخ 15 يوليو (تموز) 2010 بعنوان: «أوقفوا يد إسرائيل عن هدم المنازل الفلسطينية» حيث يؤكد الكاتب أن «استئناف إسرائيل هدم المنازل الفلسطينية في القدس الشرقية يتطلب تدخلا حاسما لمنع انهيار كلي للمحادثات»، وأنا أقول لمنع ارتكاب جرائم إضافية بحق أناس أبرياء. ويضيف الكاتب: «لسوء الطالع ليس من الصعب أن نرى مصدر عنجهية (حكام إسرائيل). لسنوات لم يتجرأ أي سياسي من الولايات المتحدة أو أوروبا أن يقرن كلماته الغاضبة بأعمال ملموسة مثل مقاطعة إسرائيل». ويضيف أن «تهويد القدس الشرقية سياسة معلنة لمجموعات استيطانية كثيرة ومموليهم ومؤيديهم السياسيين. وكل هدم منزل وطرد عائلة منه يسرع من عملية التطهير العرقي الجارية أصلا».

وبالتزامن مع هدم المنازل تصادر إسرائيل أملاك وعقارات الفلسطينيين الغائبين أو الذين قامت بتهجيرهم من ديارهم قسرا كما تفعل اليوم، وتطالب الدول العربية بإعادة ممتلكات اليهود بها!! كما أنها تطرد الأطفال الأفارقة من إسرائيل كي تبقى «إسرائيل يهودية وبيضاء» كما تقول نوا كاوفمان في هذا الصدد. إن قراءة مقال مايا غوانيري في جريدة «الغارديان» 20/7/2010 بعنوان «الأطفال هم آخر ضحايا إسرائيل» يشعرك بالاشمئزاز من سياسة لا تقيم لأي إنسان أو لأي علاقة إنسانية وزنا أو قيمة. وما يشعر بالغضب هو أن هذه السياسة تلقى الدعم والتمويل من معظم الجهات الغربية التي لا تكف عن الحديث عن «حرية» الإنسان و«حقوقه» وقدسية خصوصيته، وحين يعبر المتضررون عن يأسهم وغضبهم بعد أن فشلوا في تحريك أي ضمير غربي، أو أي هيئة في الغرب الداعم لإسرائيل، لإيقاف الضرر الفظيع اللاحق بهم، تنهال عليهم التهم المعدة أصلا على أسس عنصرية، وأحقاد دينية، وعرقية، وخلافها.

لقد كتبت مرة أن الكيان الإسرائيلي هو فرانكنشتاين المعاصر الذي اخترعه الغرب في القرن العشرين، فهل خرج هذا الفرانكنشتاين عن حدود سيطرة مخترعيه في الغرب؟! أم أن القناعة لم تتوفر بعد بخطورته على الآخرين، وعلى ذاته، وعلى العالم برمته في نهاية المطاف؟!