تركيا.. تحولات مفصلية في علاقتها مع أكراد العراق

TT

تخطط الولايات المتحدة الأميركية لسحب قواتها المقاتلة من العراق بحلول نهاية عام 2011. ومن جانب آخر يبدو أن الانتخابات العراقية التي تم إجراؤها في 7 مارس (آذار) من العام الحالي يمكن أن تهدد التوترات الداخلية في العراق (الطائفية منها والإثنية). وهنالك قوى خارجية لها مصالح في العراق تزيد الأمور سوءا، وهذا يتطلب أن يحدد مركز التنبؤات الاستخباراتية في واشنطن العوامل التي يمكن أن تؤثر في عملية الانسحاب، ويضع تصورا خاصا لمصير المنطقة في السنين القادمة. وعلى الرغم من استمرار توازن القوى الإثنية والطائفية في العراق والحفاظ على تماسكها طوال مدة ولاية المجلس النيابي العراقي التي تبلغ خمس سنوات، وإن برعاية أميركية قوية، فإن إمكانية استمرار هذا الترتيب تبقى محل تساؤل مع اقتراب أجل الانسحاب الأميركي وتصاعد التوترات بين الشيعة والسنة والكرد.

لكن مع هذا تترنح عوامل كثيرة بإمكانها أن تنسف محاولات واشنطن لفك الارتباط مع العراق. فتركيا وبفضل شراكتها مع الولايات المتحدة وهواجسها الأمنية وحاجتها إلى الطاقة وقدرتها على الاضطلاع بدور لاعب إقليمي، يمكنها أن تملأ الفراغ الذي سينجم عن خروج أميركا في العراق. أما العامل الثاني فهو تمتع الكثير من الجماعات الشيعية في العراق بعلاقات قوية مع إيران، وهو ما ولد مصاعب للسياسة الأميركية في العراق طوال السنين المنصرمة. لهذا يشكل النهج السياسي لبعض الأطراف الشيعية في العراق - بالاشتراك مع راعيتهم طهران - أهم عامل يمكن أن يهدد خطط الخروج الأميركية.

صراع مكشوف يدرك فيه كل طرف أن مصيره مرهون بالانتصار على الطرف الآخر، حيث لا تلتقي التوتاليتارية بالليبرالية، ولا الديكتاتورية بالديمقراطية، ولا الفكر الأصولي بالفكر العلماني، وخلق هذا التصور اصطفافا شديدا بين المتصارعين السياسيين، وأعطيت الأولوية للاعتبارات السياسية لا للمبادئ.

ولو عدنا بالحديث إلى الجانب التركي الذي هو محور حديثنا، فيمكن القول إن حزب العدالة والتنمية قد أعاد صياغة السياسات الخارجية لتركيا والتي تأسست بعد الجمهورية على أساس المحافظة على سلامة الكيان التركي الجديد (المولود من رحم الدولة العثمانية) والابتعاد عن تداعيات الصراعات الخارجية لتركيا، حتى تطورت هذه النزعة في أعقاب الحرب الباردة لتصبح تركيا أحد أركان مواجهة المد الاشتراكي، وبعد زوال المعسكر الاشتراكي صارت الجمهورية التركية جسرا بين الشرق والغرب. ومع هذا يبدو أن رئيس الوزراء التركي الحالي رجب طيب أردوغان قد تجاوز فكرة «الجسر». فقد وسعت تركيا دائرة علاقاتها الخارجية لتشمل - إضافة إلى الغرب - عددا أكبر من الدوائر، لا سيما تلك التي تربطها بها روابط جيوبوليتيكية وثقافية واقتصادية وتاريخية، كالانفتاح السياسي والاقتصادي تجاه إقليم كردستان العراق، واستقبال رئيس الإقليم مسعود بارزاني والوفد المرافق له بصفة رسمية وهو ما يعتبر تحولا جذريا وانفتاحا وانفراجا نوعيا في السياسة الخارجية لأنقرة نحو أكراد العراق، وذلك في خطوة تعتبر إعادة تموضع جزئية في السياسة التركية لتأكيد دور تركيا الإقليمي، وهي مهمة بلا شك.

وعلى الجانب الكردي أن يتعامل مع هذه الوتيرة التركية الجديدة محاولا رؤية ما يمكن أن يعود عليهم بالنفع والاستفادة من العلاقات التركية مع الغرب. فهذه الزيارة تعزز المصالح التركية الكردية ولا يجوز قطعها في منتصف الطريق. وعلى الجانب التركي أن يقابل هذه التوجهات الكردية بتعاون اقتصادي وتجاري وبتوجهات مماثلة؛ فكلما ترسخت الروابط الكردية - التركية، صارت تركيا دولة وشعبا أكثر حساسية تجاه ما يمكن أن يمس هذه الروابط ويؤثر عليها سلبا.

إن فتح القنصلية التركية في أربيل عاصمة إقليم كردستان يعتبر عمليا اعترافا تركيا رسميا مباشرا بوجود إقليم كردستان في إطار العراق الفيدرالي. ولهذا السبب كان يتوجب على الأتراك وضع العلم العراقي والعلم الكردي في مكانهما الصحيح واللائق بهما، تطبيقا ومراعاة لبروتوكولات الزيارات الرسمية، عندما استقبلوا رئيس الإقليم الكردي، وعقد الجانبان التركي برئاسة وزير الخارجية التركي أحمد داود أوغلو، والكردي برئاسة مسعود بارزاني رئيس الإقليم كردستان، مؤتمرا صحافيا لوسائل الإعلام.

وأخيرا نقول: إن ثمة دوائر قومية وعلمانية داخل تركيا خاصة في أوساط النخبة الحاكمة تتوجس من هذه العلاقة مخافة أن تؤدي في مستقبل قريب إلى طمس الهوية القومية للأتراك وتقويض «الميراث الجمهوري» من دون أن يدركوا أن هذا الانفتاح يعزز المصالح الإقليمية لأنقرة ويوفر لهم بدائل لسياسة التوجه غربا السابقة.

ويبقى القول: إن ثوابت السياسة الخارجية لتركيا العلمانية لن تتغير بشكل جوهري، وما نراه حاليا هو فقط «إعادة ضبط» لهذه السياسة وليس تحولا مفصليا كاملا. فتركيا لن تقطع علاقتها بإسرائيل، ولن تخرج من حلف الناتو، ولن تغير من توجهها نحو عضوية الاتحاد الأوروبي. لكن هذه التحولات في سياسة أنقرة سوف تتزايد استجابة للمصالح القومية للدولة التركية ولضغوط الرأي العام.

* كاتب كردي من العراق