الشرط الوحيد: مساواة ولا غرور

TT

هذه فكرة ساذجة أخرى: لم تصبح الوحدة الأوروبية الكبرى ممكنة إلا بعد زوال القوميات الصغرى. خفت القومية الألمانية القائمة على الشعور الفارغ بالتفوق، فأصبحت المصالحة تامة مع فرنسا، وصارت الوحدة مع بريطانيا أو بولندا أمرا طبيعيا. فرقت القوميات دول أوروبا إلى قبائل وخنادق وموت بلا حدود. كنت تعبر الحدود من فرنسا إلى ألمانيا قبل أربعة عقود كأنك تعبر من عالم إلى آخر.

كانت الحرب وحدها ممكنة في أوروبا. وإلا كيف يؤكد الرايش الثالث تميزه العرقي عن الفرنسي. وكيف يحافظ البريطاني على حدود الإمبراطورية المهترئة. وكيف تثبت اللوكسمبورغ أنها دوقية عظيمة. عندما منحت الملكة إليزابيث وشاح الشرف لفرقة البيتلز، أدرك الأوروبيون أن أبواب الوحدة قد فتحت. ها هم البريطانيون يطأون أرض الحقيقة. لن يهاجموا السويس بعد الآن ولن يقاتلوا في عدن.

أفاق الرايش الثالث تحت ركام برلين فرآها محتلة من أربع دول، كان ينوي ضمها محافظات أو قائمقاميات تاسعة عشرة. كم هو محزن أن تتكرر التجربة في العراق. الفوقيات لا تحقق وحدات الشعوب. المساواة تحقق كل شيء.

أذكر يوم خرجت من برلين بالقطار وكأنني أخرج من أو إلى حرب عالمية. جنود يتكلمون لغة جدود واحدة ويفصل بينهم عداء وقتل وسجون وجدار وآيديولوجيات. بعد عقدين فقط سوف يدفع الألمان الغربيون ألف مليار مارك لاحتضان الألمان الشرقيين. ومن برلين الشرقية سوف يعود إلى موسكو ضابط المخابرات السوفياتي فلاديمير بوتين لكي يبني روسيا الرأسمالية. والقوميات أصبحت فصولا مضحكة ومبكية في كتب التاريخ.

لن تقوم وحدة عربية على مشاعر صغيرة وفوقيات وهمية، غالبا مضحكة. الذي دمر جميع التجارب أو مشاريع الوحدة، كان الغرور الفاقع. غرور الكبار أو غرور الصغار. مهما تعددت الأسباب. والغرور والتعالي الأجوف لم يفقدنا إمكانات الوحدة فقط بل دمر الوحدات الوطنية في الطبق. من وحدة عظيمة في العراق إلى محاولات محزنة لتشكيل حكومة تعايش. والسودان على أبواب كارثة. ودول المغرب العربي أشبه «بالإمارات المتصالحة» أيام البريطانيين.

انضمت دول أوروبا إلى الوحدة، الواحدة بعد الأخرى. عندما لم تعد اليونان تقول إنها بلاد الإغريق. ولم يعد وزير السياحة يباهي على الناس بأنه سليل أفلاطون أو بيركليس. ولم يعد الألماني يقول إن جده بسمارك. وتوقف الإيطالي عن ادعاء القربى مع ليوناردو دافنشي. أدركت المساواة شعوب أوروبا، فأدركوا نعمة الوحدة. وقد تفلس هذه الوحدة ماديا، لكن لن يعود إلى الأبد شبح تلك الحروب التي كانت تنتهي بانتحار صاحبها.