آبار وآثار.. وبينهما جامعة الملك عبد الله

TT

قبل عشر سنين، أوحت لي ككاتب متابع لإيقاعات الدور السعودي وللتحولات المتأنية في اتجاه الحوار وطنيا ومع الأديان إلى جانب التوجه النوعي في مجال التنمية والتصنيع، خطوة تمثلت في قرار غير متوقع أصدره مجلس الوزراء السعودي يوم الاثنين 17 أبريل (نيسان) 2000 في الجلسة التي ترأسها الملك فهد بن عبد العزيز، طيب الله ثرى الأب والابن، وقضى بإنشاء «الهيئة العليا للسياحة» هدفها الاهتمام بالسياحة في المملكة وتنميتها وتطويرها والعمل على تعزيز دور قطاع السياحة وتذليل معوقات نموه باعتباره رافدا مهما من روافد الاقتصاد الوطني. تلك هي الحيثيات.

والقول إن القرار غير متوقع، لأن الذي هو سائد عن المملكة أنها دولة الحرمين الشريفين تنفق عليهما تطويرا وتوسعة ملايين الريالات سنويا، ولا تنظر إلى حجاج بيت الله الحرام وزوار مثوى الرسول (صلى الله عليه وسلم) ولا أيضا إلى الآتين لأداء العمرة على أنهم سياح سينفقون المال خلال أيام تأدية الفريضة والزيارة. كما أن المعروف عن المملكة أنها دولة ذات تقاليد لا تتناسب مع مفهوم السياحة، فضلا عن أن أرضها ذات آبار وليست ذات آثار، وأن الشعب السعودي، عدا نسبة يطيب لأفرادها تمضية بعض أيام الصيف بين مدن جدة وأبها والطائف، هو من نوعية الشعوب الأكثر سياحة خارج بلادهم، يستوي في ذلك المقتدر على سياحة باهظة التكلفة والمستور الحال الذي يسيح بين الأردن وسورية ولبنان ومصر وقبرص وبعض دول أوروبا والمغرب حيث التكلفة معقولة.

ولذا فإنه من الطبيعي أن يستوقفني «القرار السياحي» ليس فقط من حيث إصداره، وإنما أيضا للأهمية الاستثنائية التي أضفاها التشكيل على هذه الخطوة حيث تقرر أن يكون لـ«الهيئة العليا للسياحة» مجلس إدارة يترأسه النائب الثاني لرئيس مجلس الوزراء وزير الدفاع الأمير سلطان بن عبد العزيز (ولي العهد بعد وفاة الملك فهد ومبايعة أخيه عبد الله بن عبد العزيز)، ويضم في عضويته وزير الداخلية (الأمير نايف بن عبد العزيز) ووزير الخارجية (الأمير سعود الفيصل) والرئيس العام لرعاية الشباب (الأمير سلطان بن فهد بن عبد العزيز) ووزير المالية والاقتصاد الوطني ووزير التخطيط ووزير التجارة ووزير الزراعة والمياه ووزير المعارف ووزير الشؤون البلدية والقروية ووزير الحج. وإلى هؤلاء، الذين هم مجلس وزاري مصغر، الأمين العام للهيئة بمرتبة وزير، الذي اختاره ولي العهد (زمنذاك) عبد الله بن عبد العزيز، وصدر الأمر الملكي يوم الثلاثاء 9 مايو (أيار) 2000 بتعيينه، وكان الأمير سلطان بن سلمان الرائد العربي للفضاء. وهكذا فإن سلطان بن سلمان يزهو إلى جانب أنه حفيد الملك عبد العزيز، بأن عمه الملك فهد عينه، وعمه الملك عبد الله يشهد الإنجاز المبهر الذي حققته الهيئة وهو الذي كان اختاره ليكون أمينها العام. كما يزهو بأنه يقتبس من والده الأمير سلمان لهفة أعمال الخير والاهتمام بذوي الاحتياجات الخاصة. وأما زهوه بأنه الرائد العربي للفضاء فهذا عنصر تنشيط للهيئة التي ستضع المملكة على خارطة السياحة.

نحن الآن في السنة العاشرة لإنشاء «الهيئة العليا للسياحة». وكما انبهرت مجتمعات دولية بظاهرة التعريف بالمملكة من خلال «معرض الرياض بين الأمس واليوم» الذي واكبناه في انتقاله من عاصمة إلى أخرى وأراده الأمير سلمان بن عبد العزيز الأكثر شمولا بحيث باتت التسمية «المملكة بين الأمس واليوم»، فإن بدايات انبهار تحدث بالتدرج في أوساط مجتمعات من بينها مجتمع رواد متحف «اللوفر» الباريسي العريق الذي أطلقت منه «الهيئة العليا للسياحة» الإشارة الأولى إلى أن المملكة هي أرض ذات آثار وليست فقط ذات آبار. وفي هذا المعرض شاهد الزوار 320 قطعة أثرية من أصل مئات تم استكشافها وتسرد تاريخ السعودية منذ العصر الحجري حتى الزمن الحالي. وقياسا بالسن الفتية للهيئة، فإن ما أنجزته كان لافتا وسيكون محفزا للشروع في خطة طويلة المدى تتسع فيها رقعة التنقيب والاستقصاء عن المزيد من الآثار التي تعزز فكرة الاهتمام المستجد بإضافة المكانة السياحية إلى قائمة التميزات للمملكة العربية السعودية. وبقدر ما سيتم اكتشاف المزيد من الآثار بالقدر نفسه تكتسب المكانة أهميتها. ولكننا في الوقت نفسه نخشى على هذا التوجه من مكائد الجماعات التي تفكر بعقلية الطالبانيين الذي حطموا تماثيل محفورة على الصخور كان من شأن إبقائها أن تجعل أفغانستان مزارا لبعض شعوب شرق آسيا وينفق الزوار بسخاء، الأمر الذي يغني الأفغانيين عن الأفيون والاستضعاف والاحتلالات على أنواعها شرقية وغربية.

وقد نجد من يتساءل: أي سياحة هي التي تتطلع إليها المملكة؟ وجوابنا عن ذلك إن هذا التساؤل تجيب عنه إشارات ذات دلالات من بينها الآثار التي تبين أنها كثيرة ومن بينها سياحة الباحثين عن الحياة الفطرية وسياحة المعرفة فضلا عن السياحة الدينية والسياحة العلاجية. ومن الإشارات الكثيرة أيضا تركيز الهيئة على قطاع الإيواء السياحي واقتناع شرائح من القطاع الخاص بأن الاستثمار في بناء حالة من النهوض السياحي في الداخل يشكل نوعا من الواجب الذي يفوق عائده من حيث الأريحية الوطنية العوائد المالية من مشاريع هنا وهناك في دول في المنطقة أو عبر المحيط.

وبالعودة إلى بداية هذا المقال، أجد نفسي بعد عشر سنين من قراءة في المشهد المستقبلي الناشئ عن إنشاء «الهيئة العليا للسياحة» وكيف أن مجلس إدارتها عبارة عن مجلس وزاري مصغر يرعى ويناقش ويتابع وكأنما هو في غرفة عمليات، أكرر القول بأن تلك الخطوة كانت إيذانا بـ«طفرة سياحية» لن تنقضي السنوات العشر التالية إلا وتكون باتت من معالم حركة النهوض الشاملة في المملكة، التي تشكل «جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية» التي افتتحت مساء الأربعاء 23 سبتمبر (أيلول) 2009 الرمز المضيء لهذا النهوض.