آثار السعودية للمرة الأولى

TT

يشاهد الناس للمرة الأولى البقايا الأثرية للمملكة السعودية - التي لم يسبق عرضها من قبل في أي مكان من العالم، والتي يعود بعضها إلى نحو ستة آلاف عام مضت - في متحف اللوفر بباريس. وقد افتتح وزير الخارجية السعودي الأمير سعود الفيصل معرض الآثار السعودية الذي يحتوي على 320 قطعة أثرية في اللوفر يوم 14 يوليو (تموز) الحالي، وسوف يستمر هذه المعرض حتى 27 سبتمبر (أيلول)، ثم ينتقل بعد ذلك إلى برشلونة في إسبانيا، وبعدها يطوف في جولة ببعض العواصم والمدن الأوروبية والأميركية، ومن ثم يعود إلى بعض العواصم العربية في الخليج.

يهدف المعرض إلى التعريف بالحضارات المتعاقبة التي مرت على شبه الجزيرة العربية في فترات تاريخية تمتد إلى نحو سبعة آلاف عام، من العصر الحجري القديم وحتى العصر الحديث. ينتقل المشاهد عبر المعروضات في رحلة زمنية تستعرض فترة الممالك العربية المبكرة والوسيطة والمتأخرة وفترة العهد النبوي والدولتين الأموية والعباسية، ثم العصر العثماني، وأخيرا توحيد المملكة السعودية في القرن العشرين.

من بين معروضات اللوفر رسومات جدارية ملونة ترجع إلى القرنين الثاني والأول قبل الميلاد، وعدة مسلات جنائزية ضخمة ترجع إلى أيام حكم اللحيانيين ما بين القرنين السادس والرابع قبل الميلاد، إلى جانب بعض الجواهر والحلي الفضية التي عثر عليها في قبور الموتى في نفس العصر. ومن بين المعروضات يلفت نظر المعلقين شكل صغير لرجل صنع من الحجر الرملي، يرجع تاريخه إلى الألف الرابعة قبل الميلاد (نحو ستة آلاف عام مضت)، يميل يمينا برأسه في تعبير حزين.

وتعود أهمية هذا المعرض إلى أنه يشير إلى نقلة حضارية مهمة في تطور المملكة السعودية في العصر الحديث، حيث أصبح الاهتمام بتاريخ الوطن جزءا من المشروع الثقافي للمجتمع الجديد. فقد أعلن الأمير سلطان بن سلمان (رئيس الهيئة العامة للسياحة والآثار) عن بناء 9 متاحف متخصصة في السعودية تتضمن جانبي التعليم والتثقيف معا، وعن اتفاق جرى مع وزارة التربية والتعليم من أجل تنفيذ مشروع يهدف إلى زيادة وعي طلبة المدارس وحثهم على الاهتمام بالآثار والتراث العمراني. وبيّن الأمير سلطان خطته الجديدة التي ترمي إلى حماية البقايا الأثرية القديمة، كما أكد على ضرورة التعاون الدولي في المسح والتنقيب الأثري في السعودية، متحدثا عن التعاون مع 14 بعثة أجنبية و6 بعثات محلية في سبيل نشر الثقافة والتعليم عبر عرض الوثائق وإنشاء مراكز زوار في عدد من المواقع الأثرية.

وتعتبر أرض المملكة بمثابة كنز للآثاريين، حيث إن رمالها تخفي الكثير من المعلومات التاريخية المهمة التي لا تزال مجهولة لرجال التاريخ، تنتظر من يكتشفها. وهناك 130 موقعا أثريا سعوديا جديدا تعمل هيئة السياحة والآثار على صيانتها، ويمكن ترشيحها لتكون جزءا من تراث الإنسانية لترعاها مؤسسة اليونيسكو العالمية للثقافة، على غرار مدائن صالح التي سبق أن سجلت على لائحتها. وقد كشفت البقايا الأثرية التي تم العثور عليها في المملكة عن وجود مجموعات بشرية كانت تعيش في الجزيرة العربية، منذ أكثر من عشرة آلاف عام، كما تحدث المؤرخون العرب عن الحضارات العربية البائدة التي اختفت قبل ظهور الإسلام، ومن بينها عاد وثمود والمالق وجرهم وتسمان وجديس وأميم وعبيل وبار.

وردت كلمة «عرب» للمرة الأولى في كتابات شالمانصر الثالث ملك الآشوريين سنة 853 قبل الميلاد، الذي تحدث عن الملك جنديبو ملك البلاد العربية من بين من حاربوه في موقعة كركر. كما جاء ذكر عدة ملكات من الإناث كانت لهن ممالك في شمال السعودية في تلك الحقبة. وظهر اسم الجزيرة العربية في كتابات الرومان، الذين قسموا الجزيرة إلى ثلاثة أقسام: أريبيا بترايا، التي تمثل المنطقة الممتدة من الصحراء السورية والأردن إلى شبه جزيرة سيناء وشمال غربي السعودية. وأريبيا ديزيرتا، التي تمثل المنطقة الصحراوية في وسط السعودية. وأريبيا فيلكس في اليمن.

وفي العصر الحديث أظهرت أعمال الكشف الأثري وجود مجتمعات بشرية قديمة في المنطقة الشرقية المطلة على الخليج تعود إلى نحو خمسة آلاف عام مضت، كانوا يعيشون على صيد الأسماك والكائنات البحرية. وتمثل مناطق ساحل الخليج العربي الممتدة من الكويت شمالا وحتى عمان في الجنوب حضارة دلمون القديمة التي كانت تقوم بنقل التجارة بين بلاد الهند في الشرق وسومر في أرض الرافدين.

ومن المعروف أن الجزيرة العربية كانت تدخل ضمن منطقة الموسون في العصر الجليدي والأزمنة القديمة، حيث كانت تسقط عليها أمطار غزيرة وكانت أرضها مغطاة بالخضرة مليئة بالروافد المائية. لكن الوضع تغير منذ نحو 12 ألفا و500 سنة، عندما تغير المحور الذي تدور حوله الأرض وتغير تبعا لذلك نظام الطقس على الكرة الأرضية. وبينما ذاب الجليد الذي كان يغطي شمال أوروبا، اختفت الأمطار التي كانت تتساقط على جزيرة العرب. وكما كتب برنارد لويس المؤرخ البريطاني - الأميركي، فإن الجزيرة العربية «كانت بها في الأصل خصوبة كبيرة وكانت وطنا للأقوام السامية (التي هاجرت بعد ذلك شمالا إلى العراق وبلاد الشام). وهي تمر منذ آلاف السنين بمراحل من التصحر التدريجي، حيث تجف الثروة ومجاري المياه وتنتشر الصحراء على حساب الأرض المزروعة».

وبحسب ما ذهب إليه ستيفن أوبنهايمر – وهو كاتب بريطاني مشهور متخصص في عصور ما قبل التاريخ – فإن الجزيرة العربية كانت هي موطن الإنسان الأول الذي خرج إليها من قارة أفريقيا، قبل أن ينتقل منها إلى المناطق الأخرى للعالم. واعتمادا على تطور علم الجينات البشرية الحديث وأبحاث الطقس والكشوفات الأثرية، استنتج أوبنهايمر أن جماعات الإنسان الأول (هومو سيبيانز) تركوا أفريقيا منذ نحو 80 ألف عام، وعبروا البحر الأحمر إلى الجزيرة العربية. من هناك انتقلوا عن طريق سواحل الجزيرة إلى جنوب آسيا.

* كاتب وأكاديمي مصري مقيم في بريطانيا