استوديو تحليلي للحالة العربية!

TT

انتهت مباريات نهائيات كأس العالم بحلوها ومرها، ودخلت بطريقة أو بأخرى إلى ذمة التاريخ وسجلات الاتحاد الدولي لكرة القدم. ولكن واحدة من أهم نتائج هذه المباريات تلك الحالة من الاستوديوهات التحليلية التي نصبت ليس فقط لتحليل الحالة الكروية، وإنما لتشريحها إلى دقائق صغيرة ورد كل منها إلى أصولها ومكوناتها النفسية والمادية. وعندما تساءلت عما إذا كان ممكنا إقامة استوديو تحليلي للأحوال العربية بحيث يجري التحليل كما لو كان في معمل للبحوث السياسية، قيل لي: أليس ذلك هو ما يحدث في الندوات والمؤتمرات العربية، وبرامج الحوارات التلفزيونية التي تعود إلى الخبراء كما يحدث في مباريات كرة القدم. وفي الحقيقة لم أكن مقتنعا بالإجابة لأن الهوى كان دائما غلابا، كما أن المقاييس لم يكن ممكنا شرحها أو الاتفاق عليها كما يحدث بمثل هذه السهولة في المسابقات الرياضية. وأثناء المباريات الأخيرة استخدمت قناة «الجزيرة الرياضية» التي احتكرت حقوق البث الفضائي كتيبة من المحللين ضمن 365 فردا من المذيعين والمحللين الفنيين العرب والأجانب والأفارقة والآسيويين وشبكة من المراسلين من مختلف مدن البطولة ومن كثير من الدول المشاركة، للنقاش في مسائل فنية وتكتيكية.

وكان لافتا للنظر توافر أحدث التقنيات التكنولوجية في الاستوديو، وحدثت التغطية من أرض الحدث مباشرة، وتوفرت درجة مثيرة من تعدد الآراء من ستة أشخاص على الأقل قد يكون من بينهم لاعبون سابقون أو مدربون حاليون أو حكام قدامى أو صحافيون متخصصون في الشأن الرياضي للنقاش حول موضوع محدد كمباراة بعينها أو التعليق العام على أخبار المونديال. مثل ذلك لو تم إسقاطه على أبرز الظواهر في المنطقة العربية، فسوف تبرز مجموعة من الثنائيات المتناقضة التي يصعب التعامل معها. أولها التناقض بين القول والفعل، فالسياسات التي تتخذها الدول العربية، سواء في السياسة أو الاقتصاد أو الثقافة تسير في اتجاه مغاير لما تطرحه، بشكل صريح أو ضمني، نتيجة لغياب الإرادة السياسية أو عدم توافر الآليات التي تترجم القرارات إلى سياسات أو تعثر الخطوات الإجرائية لتنفيذ ما يقولون، وعندما يفعلون يكون أداؤهم غير كفء بشكل لا يجعل هذه الأفعال تعبيرا عن أقوالهم، وهو ما يؤدي إلى غياب ما يمكن أن نسميه «شرعية الإنجاز».

وثانيها التناقض ما بين القطري والقومي، فهناك معضلة أزلية في المنطقة العربية تتعلق بكيفية التوفيق بين الولاء للجنسية والانتماء للقومية. ورغم الحديث المتكرر من جانب بعض القوميين عن ضرورة الوحدة العربية بدعوى أن ما يجمع العرب أكثر مما يفرقهم، من خلال روابط اللغة والدين والتاريخ المشترك والعادات والتقاليد، دون إدراك حقيقي أن العرب دول متعددة وليسوا دولة واحدة، بل تتصاعد الخلافات فيما بينهم لأسباب حدودية أو موارد اقتصادية أو توجهات سياسية أو عقد نفسية أو رواسب تاريخية أو مباريات رياضية، وفي بعض الأحيان يحدث الخلاف فجأة بدون مقدمات، ويهدأ الضجيج أيضا فجأة وبدون مقدمات. أضف إلى ذلك، أن الدول العربية صارت مخترقة مما يلقي بتأثيرات حادة على أمنها القومي، والاختراق هنا شكلان: الأول اختراق من الخارج، حيث أصبح التغلغل والنفوذ الأجنبي حقيقة غير مشكوك فيها ويدعم تأثيره بشكل كبير على الداخل العربي، وهو ما يعرف بتدويل المنطقة العربية، وأصبحت الأطراف الدولية - مثل الولايات المتحدة وإلى حد ما فرنسا وبعض الدول الإقليمية مثل إيران وتركيا - أطرافا رئيسية في التفاعلات الحاكمة للساحة العربية لا سيما بعد احتلال العراق في عام 2003؛ أما الثاني فهو الاختراق من الداخل، حيث تصاعد دور الفواعل غير الرسمية أو ما تحت الوطنية في العالم العربي، والذي تجسده الحركات المسلحة والتنظيمات السياسية المعارضة والمنظمات غير الحكومية.

وثالثها ذلك التناقض بين الفرد والمؤسسة، حيث بات أبرز الظواهر في العالم العربي طغيان دور الفرد في مقابل تراجع فاعلية المؤسسة، سواء كانت رسمية أو غير رسمية، وهو ما يتم التعبير عنه بمفهوم «الشخصنة»، التي شملت الأبنية الحكومية والأحزاب السياسية والنقابات المهنية والجمعيات الأهلية والمؤسسات الصحافية، وهو ما يؤثر بدوره على دوران النخبة، على عكس الحال في عالم كرة القدم الذي يفرز أجيالا جديدة بشكل متسارع، وهو ما لا يحدث في السياسة. ومن الجدير بالذكر أن معظم الأفعال العربية تعبير عن أهواء أو ميول أو مبادرات فردية، دون النظر إلى وجود ثقافة مؤسسية، حيث تعني الأخيرة مجموعة من القيم والمفاهيم التي تربط فريق عمل وتعبر عن المنظور الجماعي لهذا الفريق تجاه التطورات المحيطة به. وتبدو جامعة الدول العربية نموذجا للمراوحة بين الفردية والمؤسسية. فمنذ إنشاء الجامعة عام 1945، وإدارتها تخضع لأسس مزدوجة بين المؤسسية التي تتجاوز حدود الدولة الوطنية والسيادة الفردية للدول الأعضاء التي أصرت على الاستقلال في اتخاذ قراراتها بعيدا عن سلطة الجامعة.

ورابعها الديمقراطية والتسلطية، حيث ظل الاتجاه الرئيسي في الأدبيات يشير إلى أن العالم العربي يمثل «حالة استثنائية» في موجة التحول الديمقراطي التي اجتاحت دولا عديدة في مناطق مختلفة من العالم، سواء في أفريقيا أو آسيا أو أميركا اللاتينية. لكن هناك تحول ديمقراطي جزئي في بعض الدول العربية، وهي تلك التي لم تصل إلى الديمقراطية الكاملة، ولكن يصعب في الوقت نفسه تصنيفها كنظم سلطوية بشكل مطلق حيث تتميز عن الأخيرة بوجود معارضة حزبية شرعية ممثلة في البرلمان، وإجراء انتخابات دورية نزيهة، ونمو متزايد لمؤسسات المجتمع المدني، كل ذلك رغم وجود حزب حاكم مهيمن، وتقييدها لبعض الحريات السياسية والمدنية، وهو ما يطلق عليه «التسلطية التنافسية». إن هذه السمات تجعل تلك النظم أكثر تسامحا مع المعارضة، كما أن حرصها على إجراء انتخابات بشكل دوري وتدريجي يقلل من سيطرة الحزب الواحد على مجريات العملية السياسية، وتفتح بالتالي المجال لمزيد من التنافسية السياسية، وهو ما يعني أن هذه الشروط التي توفرها هذه النظم تمثل الحد الأدنى اللازم لإحداث عملية التحول الديمقراطي. لكن هناك تحديات تواجه تلك الأنظمة للاستمرار في التحول الديمقراطي، وأبرزها أن مقاومة التغيير تنبع من توجهات المجتمع أكثر من اتجاهات نظم الحكم. وهنا تجدر الإشارة إلى أن مختلف الأزمات العربية كانت نتاجا لتسلطية النظام السياسي وغياب المشاركة السياسية وضعف التمثيل المجتمعي.

هذه متناقضات أربعة لا بد من الالتفات إليها وتسليط الضوء عليها، والتفكير فيها بصوت عال، ليس فقط في الاستوديوهات التحليلية وإنما في منابر مختلفة، المهم أن يكون لديها نفس الخبرة والهدوء التحليلي والبعد عن الشعارات، فربما وصلنا ذات يوم إلى حالة نفهم فيها أصول الموضوعات وليس فروعها.