الخليج النووي

TT

قبل أسبوعين أعلنت ثلاث شركات مرتبطة بصناعة الطاقة النووية، اثنتان من أميركا والأخرى من اليابان، عزمها على المنافسة في بناء وتشغيل محطات للطاقة النووية في السعودية وبعض دول الخليج. وعلى الرغم من أن الخليج لا يملك بعد بنى تحتية - أو كفاءات مادية وبشرية - للدخول في النادي النووي، فإن من الواضح وجود تحرك رسمي لدى بعض الدول الخليجية باتجاه الحصول على التكنولوجيا النووية. الأسباب المعلنة تتعلق بتنويع مصادر الطاقة، وهذا صحيح من الزاوية الاقتصادية بعد أن بلغت نسب الاستهلاك المحلي من النفط الخام والغاز أرقاما قياسية خلال السنوات العشر الماضية. بيد أن المسألة النووية في الخليج، كما يشير مراقبون كثيرون من بينهم أنتوني كوردسمان، لا يمكن نقاشها من دون أخذ التهديدات المحتملة للمشروع النووي الإيراني بعين الاعتبار. هنا تبرز أسئلة مهمة، لعل أبرزها هو مدى جدية تلك الخطط؟ وهل هي مدفوعة بضرورات سياسية أم اقتصادية؟

الحديث عن التكنولوجيا النووية بالنسبة للسياسيين في منطقتنا، بل وحتى سياسيي الدول الأوروبية وأميركا، يبدو جذابا لأنه يعكس الاهتمام بشؤون بالغة التعقيد والأهمية. ولكن الحقيقة هي أن الأقوال أسهل من الأفعال، وأن الاستثمار في الطاقة النووية ليس أمرا يسيرا بالنسبة لدول رائدة في هذا المجال، فكيف بدول لا تتعدى استخداماتها للمواد المشعة حدود الرعاية الطبية. هذا لا يعني التقليل من تطلعات دول المنطقة نحو تطوير صناعة الطاقة لديها، ولكن ثمة حاجة إلى الاعتراف بالصعوبات والتعقيدات السياسية والتقنية التي تكتنف صناعة الطاقة النووية اليوم كما يشير مارك هبز، المحلل بمؤسسة كارنيغي للسلام الدولي.

الخبراء في بدائل الطاقة يؤكدون أن العالم وصل إلى مرحلة لم يعد النفط الخام والغاز فيها قادرين على مواكبة الازدياد العالمي على الطاقة، وأن الارتفاع المضطرد في أسعار النفط واكبه ارتفاع بنسبة أكبر في تكلفة إنتاجه وتصديره، مما جعل الصناعة بطيئة النمو لأن الأرباح السريعة التي تجنيها بعض الدول المصدرة بالكاد تكفي لسداد العجز في موازناتها - إيران على سبيل المثال -، وبالتالي أصبحت الرغبة أكبر في تنويع مصادر الطاقة لتجنب مخاطر الاعتماد على مصادر محدودة. هنا قد يظن المرء أن بالإمكان اللجوء إلى مصادر بديلة للطاقة، كالطاقة النووية، أو الشمسية، أو الوقود العضوي، أو الرياح. بيد أن هذه المصادر بحسب ما يشرح روبرت برايس (جوع الطاقة: أوهام الطاقة الخضراء وقود المستقبل، 2010) غير مجدية اقتصاديا، ولا تقدم وحدها أي بديل عملي لتعويض الوقود الأحفوري. دعاة المحافظة على البيئة يشددون على أهمية البدائل الطبيعية، ولكن من الثابت علميا أن الوقود النووي ينتج طاقة تفوق مليونا مما تنتجه مصادر كالرياح، ولكن المشكلة مع الطاقة النووية هي أنها أكثر تكلفة من الوقود الأحفوري - إذا أخذنا بعين الاعتبار الدورة الاقتصادية الكاملة للصناعة -، وتتطلب وقتا أطول، لا أقل من عقدين من الزمن لتأسيس بنيتها التحتية، ونفاياتها أكثر خطورة من انبعاثات الغاز، وأخيرا - ولعله الأهم - أكثر خطورة سياسيا وأمنيا لأنها تفتح المجال أمام تطوير الأسلحة النووية الفتاكة.

ماذا عن خيارات الخليج النووية؟

حاليا بادرت دولتان هما الإمارات والسعودية إلى إنشاء مؤسسات معنية بتبيئة الطاقة النووية محليا. الإمارات وقعت عقدا مع شركات كورية جنوبية لبناء 4 مفاعلات بعقد قيمته 20 مليار دولار، ولكن هذه المفاعلات لن يتم تسليمها إلا في 2020، أي بعد عقدين من الزمن، حيث يقدر أن يكون الاستهلاك المحلي للكهرباء في الدولة قد تضاعف ثلاث مرات عما هو عليه اليوم. في السعودية بلغت نسبة الاستهلاك المحلي للنفط الخام ربع الإنتاج اليومي، 11% على سبيل المثال للكهرباء.

الحكومة السعودية تدعم أسعار الوقود والكهرباء والماء مما دفع بالاستهلاك المحلي للطاقة إلى مستويات قياسية، وبحيث بات يقتطع من رصيد الثروة النفطية. السعودية اليوم تملك قرابة 4.4 مليون برميل من الإنتاج الاحتياطي، ولكن هذا الرقم الكبير معرض للتراجع في حال ازداد الاستهلاك المحلي بنفس النسب بحسب تحذيرات رئيس شركة «أرامكو» خالد الفالح، بحيث تحتاج السعودية إلى تحويل ما لا يقل عن 3 ملايين برميل من الاحتياطي اليومي إلى الداخل في 2028.

ولهذا أعلن الملك عبد الله خلال لقائه الطلبة السعوديين بواشنطن أنه أمر بترشيد التنقيب عن النفط، حفاظا على رصيد الطاقة للأجيال القادمة، وخلال أبريل (نيسان) الماضي أعلنت السعودية عن إنشاء مدينة الملك عبد الله للطاقة النووية والمتجددة، التي من المنتظر أن تكون مسؤولة عن سياسة تنويع مصادر الطاقة وإيجاد حلول لمشكلة الكهرباء وتحلية المياه في البلاد. ربما تكون لدى السعودية والإمارات القدرة المادية على ترسية عقود مشاريع محطات الطاقة النووية اليوم، ولكن ماذا عن تخصيب الوقود النووي؟

الخبراء في الطاقة النووية يؤكدون أن إنشاء المحطات النووية لإنتاج الكهرباء شيء، وامتلاك دورة الوقود النووي شيء آخر. أي أن امتلاك كميات كبيرة من اليورانيوم، والتمكن من تكنولوجيا التخصيب ضروريان لجعل الاستثمار في الطاقة النووية مجديا اقتصاديا، وإلا تحولت تلك الدول إلى مستوردة للطاقة في هيئة الوقود النووي المخصب بنسب صناعية.

في الوقت الراهن ثمة عقبات كبيرة أمام ذلك. ففي عام 2005 قامت الوكالة الدولية للطاقة الذرية بتعديل «بروتوكول الكميات الصغيرة» (1974)، الذي لم يكن يشترط تفتيش الدول التي لديها كميات صغيرة للاستخدام الطبي والبحثي. التعديل الجديد يشترط التفتيش، ولهذا لم توقع عليه عدد من الدول. يضاف إلى ذلك أن قانون الطاقة النووية الأميركي يحظر التعامل مع الدول التي لم توقع مع الولايات المتحدة اتفاقا (يسمى 123) يحظر توريد تكنولوجيا التخصيب. الإمارات عمدت إلى توقيع اتفاقية 123 مع الولايات المتحدة من أجل الاستفادة من الدعم الأميركي، ولكنها اشترطت أن من حقها مراجعة الاتفاقية في حال وقعت الولايات المتحدة اتفاقا أفضل مع أي دولة مجاورة. يضاف إلى كل هذا أن مجموعة الثماني كانت قد اتفقت في ديسمبر (كانون الأول) من العام الماضي على عدم تصدير تكنولوجيا التخصيب إلى أي من دول المنطقة لاعتبارات أمنية.

باختصار، دول الخليج ستجد صعوبات تقنية وسياسية حتى تستطيع أن تحقق الجدوى الاقتصادية من وراء الاستثمار في قطاع الطاقة النووية، وعليها أن تكون حذرة في التفاوض حول ما يحق لها القيام به عبر تلك التكنولوجيا النووية. لقد أهدرت طهران سبعة أعوام من وقت المؤسسات الدولية في تفاوض لا ينتهي، بحيث عملت على زيادة معدلات التخصيب خلال تلك المدة. هذا لا يعني أن إيران ينبغي أن تكون نموذجا، ولكن الحق في الطاقة النووية السلمية هو حق ينبغي التفاوض حوله وتجييره لمكاسب سياسية ومادية، وليس الإقرار به مجانا وطواعية. إذ لا شيء مجانيا في عالم السياسة.