طفولتي الثقافية

TT

كان الجاذب الذي ينهضني كل صباح لأذهب إلى روضتي؛ روضة أطفال العباسية في السنة الدراسية 1944/1945، هو ذلك الكتاب المهيب ذو الجلدة الخضراء السميكة، كتاب «قراءة الأطفال»، وكان يبدو لي ضخما ثقيلا، توزعه علينا مدرّسة الفصل أبلة إحسان أبو زوبع، وهي نفسها مؤلفة الكتاب، ثم تعود تجمعه بعد انتهاء الدرس لتحفظه لنا أنيقا نظيفا بعيدا عن عبث أقلامنا وألواننا. كنت أحب فيه صورة الطفل عصام الذي لبس طربوش والده وحذاءه قائلا: «أنا الآن كبير مثل والدي لأنني لبست طربوشه وحذاءه».

كلما كانت الصورة كبيرة وطريفة كنت أجدها قريبة إلى قلبي. وأحببت قصة الفأرة «ميكي» وأولادها، ولعبة ترتيب الحروف قبل أن نرفع الغطاء الورقي لنتأكد من صحة ما توصلنا إليه. كان الكتاب بهيجا ظريفا مكتوبا بيد خطاط بخط نسخ كبير وجميل.

أما صعودي الثقافي الأمتع فقد بدأ بعد قراءتي روايتي «عمرون شاه» و«كريم الدين البغدادي» للروائي الكبير الرائد والتربوي محمد فريد أبو حديد (1/7/1893 - 18/5/1967)، وهما أول روايتين مؤلفتين باللغة العربية للأطفال صدرتا ضمن سلسلة «أولادنا» عن دار المعارف المصرية، قرأتهما وعمري بين العاشرة والثانية عشرة في طبعتهما الأولى 1947 و1949، ذات الورق الخشن السميك واللوحات البديعة للرسام «ديك»، التي رسمها خصيصا لدار المعارف المصرية، والتنسيق الجذاب. واعتقدت وقتها أنني لن أجد في الحياة أمتع منهما؛ اللغة العربية الفصيحة السلسة مغزولة بالأسلوب الشيق الذي يمزج الرقي بالبساطة، ويسهب في وصف الطبيعة الخلابة من شجر وماء وجبال وبشر ومخلوقات طيبة وأخرى غير ذلك، يصورها المؤلف بالكلمات ويرسمها الرسام بإتقان يتحدى خيالاتنا حتى إننا لا نعود نذكر القصة منفصلة عن لوحاتها، فعمرون شاه هو عمرون شاه كما رسمه «ديك» ولا نقبل له بتصور آخر، وكريم الدين البغدادي هو الذي رأيناه في الكتاب، والمركب والبحر والشجر والطائر الخرافي العملاق والحصى والساحر والمسحورين. لم يزعجني في سلسلة «أولادنا»، التي شملت المترجم من قصص الأطفال العالمية، إلا الصور الباردة ذات الزوايا الحادة المدببة في كتاب «آلة الزمان» عن الكاتب هـ. ج. ويلز.

أحيانا، بعد مرحلة الطفولة، كنت أقابل في الحياة بشرا فأقول في نفسي: هذا يشبه الساحر الشرير في قصة «عمرون شاه»، وهذه تشبه الرقيقة الجميلة «ميروت» في «كريم الدين البغدادي»، وتلك تشبه زوجة والد سندريلا القاسية، وأخرى تشبه واحدة من ابنتيها الأنانيتين، كما رسمهما الرسام في قصص كتاب «مملكة السحر». فكنت أرى في الواقع ما يشبه الفن، وكان الفن هو ما أستدل به لفهم الواقع؛ إلى هذا الحد كان عمق تأثري بالأدب والفن الذي صاغه، بعناية ورعاية ووعي وحدب وحب وحنان، أدباء وفنانون تربويون مخلصون من أجل الأطفال في طفولتي.