فيروز بين «الزعبرة» والقانون

TT

أنا لا أعرف بالضبط من أين جاءت كلمة «زعبرة» التي يستخدمها أهل بلاد الشام، ولكن الصوت المصاحب للكلمة يخدم جيدا معناها، كخليط من النصب والاحتيال والبلطجة. ولعلها الكلمة الأنسب لتعبر عن الضجيج المصاحب لخلاف الفنانة الكبيرة فيروز مع أصحاب حقوق الملكية الفكرية الممثلين بأبناء شقيق زوجها منصور الرحباني.

على كل حال يجب أن نشكر الرحابنة، ليس لأنهم أسهموا في تقديم فن جميل، استمتع به العرب جميعا فحسب، بل لأنهم أيضا يثيرون اليوم قضية في منتهى الحساسية والأهمية، وهي قضية الملكية الفكرية للمؤلف والملحن، أو المبدع عموما. في الحوار الدائر حول هذه القضية في لبنان وخارجه، سمعنا كثيرا عن «الزعبرة» ولم نسمع عن الجانب القانوني، قرأنا الكثير عن القضية، ولكننا لم نقرأ شيئا ذا بال عن تفاصيل وأحكام قانونية بشأنها، لم نقرأ شيئا عن تاريخ هذه الأغنيات والمسرحيات مثار الجدل.. وكأن صحافتنا تفضل الضجيج والبلطجة وطق الحنك على ما يقوله القانون.

القضية ببساطة هي قضية حقوق الملكية الفكرية فيما يخص المسرحيات التي قدمتها السيدة فيروز. من يملك هذه الحقوق؟ حقوق الملكية الفكرية في الموسيقي أمر معقد، ولكن اتفاقية الجات فيما يسمى بــ«الإرجواي روند»، أكدت على أن الملكية الفكرية تعود للملحن والمؤلف، وتستمر الملكية حتى خمسين عاما بعد مماته. معروف للجميع أن معظم أغاني فيروز هي من إنتاج وتلحين وتأليف الأخوين الرحباني، ومن هذا المنطلق البسيط يحق لورثة منصور رحباني أن يطالبوا فيروز بحقوق والدهم والجزء الخاص به في الملكية الفكرية لهذه الأعمال.

فلماذا يثور البعض في مظاهرات لتأييد ملكية فيروز لهذه المادة الفكرية، ويسقطون من اعتبارهم حقوق المبدعين الآخرين؟ هذا ما عنيت بأنه يقع في إطار البلطجة و«الزعبرة» ولا علاقة له بمسألة الحق القانوني.

وكي لا أفهم خطأ، فأنا من أشد المعجبين بفيروز والرحابنة، وكنت منحتهم أكبر جائزة في الموسيقى العربية، لو أنني ممن يهبون الجوائز العربية التي تملأ الدنيا الآن. فقصائد الشعر المحكي الشفافة كأجنحة الفراشات التي حاكها (الأخوان الرحباني)، وموسيقاهما الرعوية الفلاحية التي لها إيقاع جبال ووديان لبنان، وصوت فيروز الصاعد إلى السماء بلا حواجز ولا حدود، هي تجربة من أرق ما أنتجه الفن العربي المعاصر. لم يضيرهم أنهم قد أخذوا أحيانا من الأعمال الموسيقية الكبرى المعروفة وعملوا بذكاء على «لبننتها»، ولكن السؤال مرة أخرى: هل راعوا بذلك حقوق الملكية الفكرية لهذه الأعمال؟ وإلا، فهذا أمر قد لا يسر القائمين على حفظ كلاسيكيات التراث الأوروبي من الموسيقى، وهذه قصة أخرى.

في الضجيج حول هذه القضية، هناك من كتب «ثمة ورثة لملكية فكرية استطاعوا أن يمنعوا فنانا مبدعا من أداء أعمال فنية ساهم في ظهورها إلى الوجود بجهده وإبداعه»، وقال إن فيروز هي الأصل وإن قوانين الملكية الفكرية ما هي إلا قوانين خشبية.

وكذلك تهكم أحد الكتاب على ورثة منصور رحباني، على أنهم لم يساهموا في العملية الإبداعية، وأنهم ورثوا صكوكا. وقال: «فكيف لمن لم يقدم جهدا في تأليفها ولا تلحينها ولا أدائها، ومع ذلك يستطيع منعها!» أي فيروز.

هذا الجدل طبعا فيه غوغائية مرعبة، ويكشف جهلا عميقا بقوانين الملكية الفكرية التي تضمن حقوق المبدع وورثته من بعده. الحقيقة بسيطة، وهي إن كانت فيروز قد اشترت من زوجها وشقيقه حقوق الملكية الفكرية منذ زمن فمن حقها ألا تكترث بهذه المطالب. أما إن لم تكن قد اشترت تلك الحقوق، (وأظنها لم تفعل)، فلا بد لها (قانونيا) أن تعطي كل ذي حق حقه من ورثة حقوق الملكية الفكرية. أما ما يقال عن التفاوض على ربع المبلغ أو مبلغ رمزي، فهذا لا يدخل في نطاق القانون وإنما في نطاق «الزعبرة».

أيا كان عشقنا لصوت فيروز، فلا ندعه يجعلنا ننسى أن عبقرية (الأخوين الرحباني) في الكتابة والتأليف والتلحين كانت وراء تألقه. صوت فيروز كان دائما دعوة إلى الحب والسلام والعدل، فلماذا نريده اليوم خارج العدل وفوق العدالة؟ القصة من وجهة نظري هي قضية قانونية، ولنتعلم أن نحترم حقوق الملكية الفكرية أيا كانت أسماء الواقفين على الأرصفة حاملين صور فيروز، وأيا كانت ألوان «الزعبرة».